﴿ الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم ﴾
﴿ تفسير السعدي ﴾
لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من "أحد" إلى المدينة، وسمع أن أبا سفيان ومن معه من المشركين قد هموا بالرجوع إلى المدينة، ندب أصحابه إلى الخروج، فخرجوا -على ما بهم من الجراح- استجابة لله ولرسوله، وطاعة لله ولرسوله، فوصلوا إلى "حمراء الأسد" وجاءهم من جاءهم
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ثم مدح- سبحانه- المؤمنين الصادقين الذين لم تمنعهم جراحهم وآلامهم عن الاستجابة لأمر رسولهم صلى الله عليه وسلّم فقال- تعالى-: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ.قال الفخر الرازي ما ملخصه: اعلم أن الله- تعالى- مدح المؤمنين على غزوتين تعرف إحداهما: بغزوة حمراء الأسد، والثانية: بغزوة بدر الصغرى، وكلتاهما متصلة بغزوة أحد.أما غزوة حمراء الأسد فهي المرادة من هذه الآية، فإن الأصح في سبب نزولها أن أبا سفيان وأصحابه بعد أن انصرفوا من أحد وبلغوا الروحاء، ندموا وقالوا: إنا قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلا القليل فلم تركناهم؟ بل الواجب أن نرجع ونستأصلهم، فهموا بالرجوع.فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأراد أن يرهب الكفار ويريهم من نفسه ومن أصحابه قوة.فندب أصحابه إلى الخروج في طلب أبى سفيان وقال: لا أريد أن يخرج الآن معى إلا من كان معى في القتال- في أحد-.فخرج الرسول صلّى الله عليه وسلّم مع قوم من أصحابه حتى بلغوا حمراء الأسد. وهي مكان على بعد ثمانية أميال من المدينة.فألقى الله الرعب في قلوب المشركين فانهزموا.وروى أنه كان فيهم من يحمل صاحبه على عنقه ساعة، ثم كان المحمول يحمل الحامل ساعة أخرى. وكان كل ذلك لإثخان الجراح فيهم، وكان فيهم من يتوكأ على صاحبه ساعة ويتوكأ عليه صاحبه ساعة.وقوله اسْتَجابُوا بمعنى أجابوا. وقيل: استجابوا، أصلها طلبوا الإجابة لأن الأصل في الاستفعال طلب الفعل. والقرح: الجراح الشديدة.والمعنى: أن الله- تعالى- لا يضيع أجر هؤلاء المؤمنين الصادقين، الذين أجابوا داعي الله وأطاعوا رسوله، بأن خرجوا للجهاد في سبيل عقيدتهم بدون وهن أو ضعف أو استكانة مع مآبهم من جراح شديدة، وآلام مبرحة.ثم بين- سبحانه- جزاءهم فقال: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ أى الذين أحسنوا منهم بأن أدوا جميع المأمورات، واتقوا الله في كل أحوالهم بأن صانوا أنفسهم عن جميع المنهيات، لهؤلاء أجر عظيم لا يعلم كنهه إلا الله- تعالى-.وقوله الَّذِينَ اسْتَجابُوا في موضع رفع على الابتداء وخبره قوله لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا ويجوز أن يكون في موضع جر على أنه صفة للمؤمنين في قوله: وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ.قال صاحب الكشاف: و «من» في قوله لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ للتبيين مثلها في قوله- تعالى- وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً. لأن الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا لا بعضهم .
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله تعالى : ( الذين استجابوا لله والرسول ) الآية ، وذلك أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا على انصرافهم وتلاوموا وقالوا : لا محمدا قتلتم ولا الكواعب أردفتم ، قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم؟ ارجعوا فاستأصلوهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يرهب العدو ويريهم من نفسه وأصحابه قوة فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان ، فانتدب عصابة منهم مع ما بهم من الجرح والقرح الذي أصابهم يوم أحد ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس فكلمه جابر بن عبد الله ، فقال : يا رسول الله إن أبي كان قد خلفني على أخوات لي سبع ، وقال لي يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن ولست بالذي أوثرك على نفسي في الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتخلف على أخواتك ، فتخلفت عليهن فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج معه .وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهبا للعدو وليبلغهم أنه خرج في طلبهم فيظنوا به قوة وأن الذي أصابهم لم يوهنهم فينصرفوا .فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وأبو عبيدة بن الجراح في سبعين رجلا رضي الله عنهم حتى بلغوا حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال .وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لعبد الله بن الزبير : يا ابن أختي أما والله إن أباك وجدك - تعني أبا بكر والزبير - لمن الذين قال الله عز وجل فيهم : ( الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ) فمر برسول الله صلى الله عليه وسلم معبد الخزاعي بحمراء الأسد وكانت خزاعة - مسلمهم وكافرهم - عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا كان بها ، ومعبد يومئذ مشرك فقال : يا محمد والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا أن الله تعالى كان قد أعفاك منهم ، ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : لقد أصبنا جل أصحابه وقادتهم لنكرن على بقيتهم فلنفرغن منهم ، فلما رأى أبو سفيان معبدا قال : ما وراءك يا معبد ؟ قال : محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط يتحرقون عليكم تحرقا ، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على صنيعهم ، وفيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط ، قال : ويلك ما تقول ؟ قال : والله ما أراك ترحل حتى ترى نواصي الخيل ، قال : فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم ، قال : فإني والله أنهاك عن ذلك فوالله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه أبياتا :كادت تهد من الأصوات راحلتي إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيلفذكر أبياتا فرد ذلك أبا سفيان ومن معه .ومر به ركب من عبد القيس فقال : أين تريدون؟ قالوا : نريد المدينة قال : ( ولم؟ قالوا : نريد الميرة ) قال : فهل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة وأحمل لكم إبلكم هذه زبيبا بعكاظ غدا إذا وافيتمونا؟ قالوا : نعم ، قال : فإذا جئتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم وانصرف أبو سفيان إلى مكة ، ومر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه : " حسبنا الله ونعم الوكيل " ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد الثالثة . هذا قول أكثر المفسرين .وقال مجاهد وعكرمة : نزلت هذه الآية في غزوة بدر الصغرى وذلك أن أبا سفيان يوم أحد حين أراد أن ينصرف قال : يا محمد موعد ما بيننا وبينك موسم بدر الصغرى لقابل إن شئت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ذلك بيننا وبينك إن شاء الله " فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة من ناحية مر الظهران ثم ألقى الله الرعب في قلبه فبدا له الرجوع فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمرا فقال له أبو سفيان : يا نعيم إني واعدت محمدا وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر الصغرى وإن هذه عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن ، وقد بدا لي أن لا أخرج إليها وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا فيزيدهم ذلك جرأة ولأن يكون الخلف من قبلهم أحب إلي من أن يكون من قبلي فالحق بالمدينة فثبطهم وأعلمهم أني في جمع كثير لا طاقة لهم بنا ، ولك عندي عشرة من الإبل أضعها لك على يدي سهيل بن عمرو ويضمنها قال : فجاء سهيل فقال له نعيم يا أبا يزيد : أتضمن لي هذه القلائص وأنطلق إلى محمد وأثبطه؟ قال : نعم . فخرج نعيم حتى أتى المدينة فوجد الناس يتجهزون لميعاد أبي سفيان فقال : أين تريدون؟ فقالوا : واعدنا أبو سفيان بموسم بدر الصغرى أن نقتتل بها فقال : بئس الرأي رأيتم ، أتوكم في دياركم وقراركم فلم يفلت منكم إلا الشريد ، فتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم عند الموسم ، والله لا يفلت منكم أحد ، فكره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفس محمد بيده لأخرجن ولو وحدي " فأما الجبان فإنه رجع وأما الشجاع فإنه تأهب للقتال وقال : " حسبنا الله ونعم الوكيل " .فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى وافوا بدرا الصغرى فجعلوا يلقون المشركين ويسألونهم عن قريش فيقولون قد جمعوا لكم يريدون أن يرعبوا المسلمين فيقول المؤمنون : حسبنا الله ونعم الوكيل ، حتى بلغوا بدرا وكانت موضع سوق لهم في الجاهلية يجتمعون إليها في كل عام ثمانية أيام فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر ينتظر أبا سفيان وقد انصرف أبو سفيان من مجنة إلى مكة فلم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحدا من المشركين ووافقوا السوق وكانت معهم تجارات ونفقات فباعوا وأصابوا بالدرهم درهمين وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين فذلك قوله تعالى : ( الذين استجابوا لله والرسول ) أي أجابوا ومحل " الذين " خفض على صفة المؤمنين تقديره : إن الله لا يضيع أجر المؤمنين المستجيبين لله والرسول ، ( من بعد ما أصابهم القرح ) أي : ( نالتهم الجراح ) تم الكلام هاهنا ثم ابتداء فقال : ( للذين أحسنوا منهم ) بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجابته إلى الغزو ، ( واتقوا ) معصيته ( أجر عظيم ) .