﴿ إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ﴾
﴿ تفسير السعدي ﴾
يخبر تعالى عن شناعة ما عليه المشركون الكافرون بربهم، وأنهم جمعوا بين الكفر بالله ورسوله، وبين الصد عن سبيل الله ومنع الناس من الإيمان، والصد أيضا عن المسجد الحرام، الذي ليس ملكا لهم ولا لآبائهم، بل الناس فيه سواء، المقيم فيه، والطارئ إليه، بل صدوا عنه أفضل الخلق محمدا وأصحابه، والحال أن هذا المسجد الحرام، من حرمته واحترامه وعظمته، أن من يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم.فمجرد إرادة الظلم والإلحاد في الحرم، موجب للعذاب، وإن كان غيره لا يعاقب العبد عليه إلا بعمل الظلم، فكيف بمن أتى فيه أعظم الظلم، من الكفر والشرك، والصد عن سبيله، ومنع من يريده بزيارة، فما ظنكم أن يفعل الله بهم؟"وفي هذه الآية الكريمة، وجوب احترام الحرم، وشدة تعظيمه، والتحذير من إرادة المعاصي فيه وفعلها.
﴿ تفسير الوسيط ﴾
قال الإمام الرازي: اعلم أنه- تعالى- بعد أن فصل بين الكفار والمؤمنين ذكر عظم حرمة البيت، وعظم كفر هؤلاء الكافرين فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ.قال ابن عباس: الآية نزلت في أبى سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الحديبية عن المسجد الحرام، عن أن يحجوا ويعتمروا، وينحروا الهدى. فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قتالهم، وكان محرما بعمرة، ثم صالحوه على أن يعود في العام القادم..وصح عطف المضارع وهو «يصدون» على الماضي وهو «كفروا» لأن المضارع هنا لم يقصد به زمن معين من حال أو استقبال، وإنما المراد به مجرد الاستمرار، كما في قولهم: فلان يحسن إلى الفقراء، فإن المراد به استمرار وجود إحسانه.ويجوز أن يكون قوله وَيَصُدُّونَ ... خبرا لمبتدأ محذوف، أى: وهم يصدون عن المسجد الحرام. وخبر إن في قوله- سبحانه-: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ... محذوف لدلالة آخر الآية عليه.والمعنى: إن الذين أصروا على كفرهم بما أنزله الله- تعالى- على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم، واستمروا على منع أهل الحق من أداء شعائر دين الله- تعالى-، ومن زيارة المسجد الحرام..هؤلاء الكافرون سوف نذيقهم عذابا أليما.ويصح أن يكون الخبر محذوفا للتهويل والإرهاب. وكأن وصفهم بالكفر والصد كاف في معرفة مصيرهم المهين.قال القرطبي: قوله- تعالى-: وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ قيل إنه المسجد نفسه وهو ظاهر القرآن، لأنه لم يذكر غيره، وقيل الحرم كله، لأن المشركين صدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه عنه عام الحديبية، فنزل خارجا عنه ... وهذا صحيح لكنه قصد هنا بالذكر المهم المقصود من ذلك.وقوله- سبحانه-: الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ.. تشريف لهذا المكان حيث جعل الله- تعالى- الناس تحت سقفه سواء، وتشنيع على الكافرين الذين صدوا المؤمنين عنه.ولفظ «سواء» قرأه جمهور القراء بالرفع على أنه خبر مقدم، والعاكف: مبتدأ، والباد معطوفة عليه أى: العاكف والباد سواء فيه. أى مستويان فيه.وقرأه حفص عن عاصم بالنصب على أنه المفعول الثاني لقوله «جعلناه» بمعنى صيرناه.أى: جعلناه مستويا فيه العاكف والباد. ويصح أن يكون حالا من الهاء في جَعَلْناهُ أى:وضعناه للناس حال كونه سواء العاكف فيه والباد.والمراد: بالعاكف فيه: المقيم فيه. يقال: عكف فلان على الشيء، إذا لازمه ولم يفارقه.والباد: الطارئ عليه من مكان آخر. وأصله من يكون من أهل البوادي الذين يسكنون المضارب والخيام، ويتنقلون من مكان إلى آخر.أى: جعلناه للناس على العموم، يصلون فيه، ويطوفون به، ويحترمونه ويستوي تحت سقفه من كان مقيما في جواره، وملازما للتردد عليه، ومن كان زائرا له وطارئا عليه من أهل البوادي أو من أهل البلاد الأخرى سوى مكة.فهذا المسجد الحرام يتساوى فيه عباد الله، فلا يملكه أحد منهم، ولا يمتاز فيه أحد منهم، بل الكل فوق أرضه وتحت سقفه سواء.وقوله- تعالى-: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ تهديد لكل من يحاول ارتكاب شيء نهى الله عنه في هذا المسجد الحرام.والإلحاد الميل. يقال: ألحد فلان في دين الله، أى: مال وحاد عنه.و «من» شرطية وجوابها «نذقه» ومفعول «يرد» محذوف لقصد التعميم. أى: ومن يرد فيه مرادا بإلحاد، ويصح أن يكون المفعول قوله بِإِلْحادٍ على أن الباء زائدة.أى: ومن يرد في هذا المسجد الحرام إلحادا، أى: ميلا وحيدة عن أحكام الشريعة وآدابها بسبب ظلمه وخروجه عن طاعتنا، نذقه من عذاب أليم لا يقادر قدره، ولا يكتنه كنهه.وقد جاء هذا التهديد في أقصى درجاته لأن القرآن توعد بالعذاب الأليم كل من ينوى ويريد الميل فيه عن دين الله، وإذا كان الأمر كذلك، فمن ينوى ويفعل يكون عقابه أشد، ومصيره أقبح.ويدخل تحت هذا التهديد كل ميل عن الحق إلى الباطل، أو عن الخير إلى الشر كالاحتقار، والغش.ولذا قال ابن جرير بعد أن ساق الأقوال في ذلك: وأولى الأقوال التي ذكرناها في تأويل ذلك بالصواب: القول الذي ذكرناه من أن المراد بالظلم في هذا الموضع، كل معصية لله، وذلك لأن الله عم بقوله: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ ولم يخصص به ظلما دون ظلم في خبر ولا عقل، فهو على عمومه، فإذا كان ذلك كذلك فتأويل الكلام: ومن يرد في المسجد الحرام بأن يميل بظلم فيعصى الله فيه، نذقه يوم القيامة من عذاب موجع له.
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله عز وجل : ( إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله ) عطف المستقبل على الماضي لأن المراد من لفظ المستقبل الماضي كما قال تعالى في موضع آخر ( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ) ( النساء 167 ) ، معناه إن الذين كفروا فيما تقدم ويصدون عن سبيل الله في الحال أي وهم يصدون . ( والمسجد الحرام ) أي ويصدون عن المسجد الحرام . ( الذي جعلناه للناس ) قبلة لصلاتهم ومنسكا ومتعبدا كما قال ( وضع للناس ) ( آل عمران 96 ) . ( سواء ) قرأ حفص عن عاصم ويعقوب : " سواء " نصبا بإيقاع الجعل عليه لأن الجعل يتعدى إلى مفعولين وقيل معناه مستويا فيه ، ( العاكف فيه والباد ) وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء وما بعده خبر وتمام الكلام عند قوله " للناس " وأراد بالعاكف المقيم فيه ، وبالبادي الطارئ المنتاب إليه من غيرهواختلفوا في معنى الآية فقال قوم " سواء العاكف فيه والباد " أي في تعظيم حرمته وقضاء النسك فيه وإليه ذهب مجاهد والحسن وجماعة ، وقالوا المراد منه نفس المسجد الحرام . ومعنى التسوية هو التسوية في تعظيم الكعبة في فضل الصلاة في المسجد الحرام والطواف بالبيتوقال آخرون المراد منه جميع الحرم ومعنى التسوية أن المقيم والبادي سواء في النزول به ليس أحدهما أحق بالمنزل يكون فيه من الآخر غير أنه لا يزعج فيه أحدا إذا كان قد سبق إلى منزل وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وابن زيد ، قالوا هما سواء في البيوت والمنازل .وقال عبد الرحمن بن سابط : كان الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهل مكة بأحق بمنزله منهم وكان عمر بن الخطاب ينهى الناس أن يغلقوا أبوابهم في الموسم وعلى هذا القول لا يجوز بيع دور مكة وإجارتها ، وعلى القول الأول وهو الأقرب إلى الصواب يجوز لأن الله تعالى قال ( الذين أخرجوا من ديارهم ) ( الحج 40 ) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن " فنسب الدار إليه نسب ملك واشترى عمر دارا للسجن بمكة بأربعة آلاف درهم فدل على جواز بيعها وهذا قول طاوس وعمرو بن دينار ، وبه قال الشافعي .قوله عز وجل ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ) أي في المسجد الحرام بإلحاد بظلم وهو الميل إلى الظلم الباء في قوله " بإلحاد " زائدة كقوله : ( تنبت بالدهن ) ( المؤمنون 20 ) ، ومعناه من يرد فيه إلحادا بظلم قال الأعشى :" ضمنت برزق عيالنا أرماحنا "، أي رزق عيالنا وأنكر المبرد أن تكون الباء زائدة وقال معنى الآية من تكن إرادته فيه بأن يلحد بظلمواختلفوا في هذا الإلحاد فقال مجاهد وقتادة : هو الشرك وعبادة غير اللهوقال قوم : هو كل شيء كان منهيا عنه من قول أو فعل حتى شتم الخادموقال عطاء : هو دخول الحرم غير محرم أو ارتكاب شيء من محظورات الحرم من قتل صيد أو قطع شجروقال ابن عباس : هو أن تقتل فيه من لا يقتلك أو تظلم فيه من لا يظلمك وهذا معنى قول الضحاك .وعن مجاهد أنه قال تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات .وقال حبيب بن أبي ثابت : وهو احتكار الطعام بمكة .وقال عبد الله بن مسعود في قوله ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) قال لو أن رجلا هم بخطيئة لم تكتب عليه ما لم يعملها ولو أن رجلا هم بقتل رجل بمكة وهو بعدن أبين أو ببلد آخر أذاقه الله من عذاب أليم . وقال السدي : إلا أن يتوبوروي عن عبد الله بن عمر أنه كان له فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الآخر فسئل عن ذلك فقال كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل كلا والله وبلى والله .