﴿ ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينـزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ﴾
﴿ تفسير السعدي ﴾
أي: ألم تشاهد ببصرك، عظيم قدرة الله، وكيف يُزْجِي أي: يسوق سَحَابًا قطعا متفرقة ثُمَّ يُؤَلِّفُ بين تلك القطع، فيجعله سحابا متراكما، مثل الجبال. فَتَرَى الْوَدْقَ أي: الوابل والمطر، يخرج من خلال السحاب، نقطا متفرقة، ليحصل بها الانتفاع من دون ضرر، فتمتلئ بذلك الغدران، وتتدفق الخلجان، وتسيل الأودية، وتنبت الأرض من كل زوج كريم، وتارة ينزل الله من ذلك السحاب بردا يتلف ما يصيبه. فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ بحسب ما اقتضاه حكمه القدري، وحكمته التي يحمد عليها، يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ أي: يكاد ضوء برق ذلك السحاب، من شدته يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ أليس الذي أنشأها وساقها لعباده المفتقرين، وأنزلها على وجه يحصل به النفع وينتفي به الضرر، كامل القدرة، نافذ المشيئة، واسع الرحمة؟.
﴿ تفسير الوسيط ﴾
قوله- تعالى- يُزْجِي من الإزجاء بمعنى الدفع بأناة ورفق. يقال: زجى الراعي إبله تزجية، إذا ساقها برفق. وأزجت الريح السحاب، أى: دفعته.والمعنى: لقد علمت- أيها العاقل- ورأيت بعينيك، أن الله- تعالى- يسوق بقدرته السحاب الذي في الجو، سوقا رفيقا إلى حيث يريد.ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ أى: يسوق- سبحانه- السحاب سوقا هادئا سهلا. ثم بعد ذلك يصل بعضه ببعض، ويجمع بعضه مع بعض، ثم بعد ذلك يَجْعَلُهُ رُكاماً أى: متراكما بعضه فوق بعض. يقال ركم فلان الشيء يركمه ركما، إذا جمعه، وألقى بعضه على بعض، ومنه:الرمل المتراكم، أى: المجتمع.وهذا الذي حكاه القرآن من سوق الله- تعالى- للسحب ثم تجميعها، ثم تحويلها إلى قطع ضخمة متراكمة متكاثفة كقطع الجبال، يراه الراكب للطائرات بوضوح وتسليم بقدرة الله- تعالى-، الذي أحسن كل شيء خلقه.وقوله- سبحانه-: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ بيان لما يترتب على هذا السوق الرفيق، والتجمع الدقيق من آثار.والودق: المطر. وهو في الأصل مصدر ودق السحاب يدق ودقا، إذا نزل منه المطر.والخلال: جمع خلل- كجبال وجبل- والمراد بها الفتوق والشقوق.قال القرطبي: في «الودق» قولان: أحدهما: أنه البرق.. والثاني: أنه المطر. وهو قول الجمهور يقال: ودقت السحابة فهي وادقة. وودق المطر يدق ودقا. أى: قطر .أى: يسوق الله- تعالى- السحاب إلى حيث يشاء بقدرته، ثم يؤلف بينه، ثم يجعله متراكما بعضه فوق بعض، فترى- أيها العاقل- المطر يخرج من فتوق هذا السحاب المتراكم ومن فروجه، تارة بشدة وعنف، وتارة بهدوء ورفق.وقوله- تعالى-: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ، فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ. وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ.. بيان لمظهر آخر من مظاهر قدرته- سبحانه-.أى: وينزل- سبحانه- من جهة السماء قطعا من السحاب كأنها القطع من الجبال في عظمها وضخامتها، «فيها من برد» أى: في تلك القطع من السحاب الكثير من البرد، وهو شيء ينزل من السحاب يشبه الحصى، ويسمى حب الغمام: وحب المزن.قال صاحب الكشاف: فإن قلت: ما الفرق بين «من» الأولى، والثانية، والثالثة في قوله وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ؟.قلت الأولى لابتداء الغاية، والثانية للتبعيض، والثالثة للبيان، أو الأوليان للابتداء.والآخرة للتبعيض.فإن قلت: ما معنى «من جبال فيها من برد» ؟ قلت: فيه معنيان: أحدهما: أن يخلق الله في السماء جبال برد. كما في الأرض جبال حجر، والثاني: أن يريد الكثرة بذكر الجبال، كما يقال: فلان يملك جبالا من ذهب .وقوله- تعالى-: فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ أى: فيصيب بالذي ينزله من هذا البرد من يشاء إصابته من عباده، ويصرفه عمن يشاء صرفه عنهم، إذ الإصابة والصرف بمقتضى حكمته وإرادته.ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ. والسنا:شدة الضوء. يقال: سنا الشيء يسنو سنا، إذا أضاء.أى: يكاد ضوء برق السحاب الموصوف بما مر من الإزجاء والتأليف والتراكم.. يخطف الأبصار من شدة إضاءته، وزيادة لمعانه وسرعة توهجه.
﴿ تفسير البغوي ﴾
( ألم تر أن الله يزجي ) يعني : يسوق بأمره ، ( سحابا ) إلى حيث يريد ، ( ثم يؤلف بينه ) أي : يجمع بين قطع السحاب المتفرقة بعضها إلى بعض ، ( ثم يجعله ركاما ) متراكما بعضه فوق بعض ، ( فترى الودق ) يعني المطر ، ( يخرج من خلاله ) وسطه وهو جمع الخلل ، كالجبال جمع الجبل . ( وينزل من السماء من جبال فيها من برد ) يعني : ينزل البرد ، و " من " صلة ، وقيل : معناه وينزل من السماء من جبال ، أي : مقدار جبال في الكثرة من البرد ، و " من " في قوله " من جبال " صلة ، أي : وينزل من السماء جبالا من برد . وقيل : معناه وينزل من جبال في السماء تلك الجبال من برد . وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أخبر الله - عز وجل - أن في السماء جبالا من برد ، ومفعول الإنزال محذوف تقديره : وينزل من السماء من جبال فيها برد ، فاستغنى عن ذكر المفعول للدلالة عليه . قال أهل النحو ذكر الله تعالى " من " ثلاث مرات في هذه الآية فقوله " من السماء " لابتداء الغاية ، لأن ابتداء الإنزال من السماء ، وقوله تعالى " من جبال " للتبعيض لأن ما ينزله الله تعالى بعض تلك الجبال التي في السماء ، وقوله تعالى : " من برد " للتجنيس لأن تلك الجبال من جنس البرد . ( فيصيب به ) يعني بالبرد ( من يشاء ) فيهلك زروعه وأمواله ، ( ويصرفه عن من يشاء ) فلا يضره ، ( يكاد سنا برقه ) يعني ضوء برق السحاب ، ( يذهب بالأبصار ) شدة ضوئه وبريقه ، وقرأ أبو جعفر : " يذهب " بضم الياء وكسر الهاء .