﴿ وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ﴾
﴿ تفسير السعدي ﴾
أي: وإذا كان بينك وبين قوم عهد وميثاق على ترك القتال فخفت منهم خيانة،بأن ظهر من قرائن أحوالهم ما يدل على خيانتهم من غير تصريح منهم بالخيانة. فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عهدهم، أي: ارمه عليهم، وأخبرهم أنه لا عهد بينك وبينهم. عَلَى سَوَاءٍ أي: حتى يستوي علمك وعلمهم بذلك، ولا يحل لك أن تغدرهم، أو تسعى في شيء مما منعه موجب العهد، حتى تخبرهم بذلك. إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ بل يبغضهم أشد البغض، فلا بد من أمر بيِّنٍ يبرئكم من الخيانة. ودلت الآية على أنه إذا وجدت الخيانة المحققة منهم لم يحتج أن ينبذ إليهم عهدهم، لأنه لم يخف منهم، بل علم ذلك، ولعدم الفائدة ولقوله: عَلَى سَوَاءٍ وهنا قد كان معلوما عند الجميع غدرهم. ودل مفهومها أيضًا أنه إذا لم يُخَفْ منهم خيانة، بأن لم يوجد منهم ما يدل على ذلك، أنه لا يجوز نبذ العهد إليهم، بل يجب الوفاء إلى أن تتم مدته.
﴿ تفسير الوسيط ﴾
وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ.وقوله: تَخافَنَّ من الخوف والمراد به هنا العلم.وقوله: فَانْبِذْ من النبذ بمعنى الطرح، وهو مجاز عن إعلامهم بأنهم لا عهد لهم بعد اليوم، فشبه- سبحانه- العهد بالشيء الذي يرمى لعدم الرغبة فيه، وثبت النبذ له على سبيل التخييل، ومفعول «فانبذ» محذوف أى: فانبذ إليهم عهودهم.قال الجمل: وقوله: عَلى سَواءٍ حال من الفاعل والمفعول معا، أى: فاعل الفعل وهو ضمير النبي صلى الله عليه وسلم ومفعوله وهو المجرور بإلى.أى: حال كونكم مستوين في العلم بطرح العهد. فعلمك أنت به لأنه فعل نفسك، وعلمهم به بإعلامك إياهم، فكأنه قيل في الآية: فانبذ عهدهم وأعلمهم بنبذه، ولا تقاتلهم بغتة لئلا يتهموك بالغدر وليس هذا من شأنك ولا من صفاتك».والمعنى: وإما تعلمن- يا محمد- من قوم بينك وبينهم عهد أنهم على وشك نقضه منهم، بأمارات تلوح لك تدل على غدرهم، فاطرح إليهم عهدهم على طريق مستو ظاهر: بأن تعلمهم بنبذك عهدهم قبل أن تحاربهم، حتى تكون أنت وهم في العلم بنبذ العهد سواء، لأن الله- تعالى- لا يحب الخائنين وإن من مظاهر الخيانة التي يبغضها الله- تعالى- أن يحارب أحد المتعاهد معه دون أن بعلمه بإنهاء عهده.قال ابن كثير: قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة عن أبى الفيض عن سليم بن عامر قال: كان بين معاوية وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم ليقرب منها، حتى إذا انقضى العهد غزاهم فإذا شيخ على دابة يقول: الله أكبر الله أكبر، وفاء لا غدرا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقدة، ولا يشدها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء» .قال: فبلغ ذلك معاوية فرجع، فإذا بالشيخ عمرو بن عيسة.ثم قال ابن كثير، وهذا الحديث رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة، وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه من طرق عن شعبة به، وقال الترمذي حسن صحيح.وروى الإمام أحمد عن سلمان الفارسي أنه انتهى إلى حصن أو مدينة فقال لأصحابه:دعوني أدعوهم كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم، فقال: إنما كنت رجلا منكم فهداني الله إلى الإسلام فإن أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن أنتم أبيتم، فأدوا الجزية وأنتم صاغرون فإن أبيتم نابذناكم على سواء، إن الله لا يحب الخائنين، يفعل ذلك بهم ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الرابع غدا الناس إليها ففتحوها بعون الله» .وقال الفخر الرازي: قال أهل العلم: آثار نقض العهد إذا ظهرت، فإما أن تظهر ظهورا محتملا، أو ظهورا مقطوعا به.فإن كان الأول: وجب الإعلام على ما هو مذكور في هذه الآية، وذلك لأن بنى قريظة عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم ثم أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على رسول الله، فحصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خوف الغدر منهم به وأصحابه، فهنا يجب على الإمام أن ينبذ إليهم عهودهم على سواء ويؤذنهم بالحرب.أما إذا ظهر نقض العهد ظهورا مقطوعا به، فهنا لا حاجة إلى نبذ العهد، وذلك كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل مكة، فإنهم لما نقضوا العهد بقتل خزاعة وهم في ذمة النبي صلى الله عليه وسلم وصل إليهم جيش رسول الله بمر الظهران، وذلك على أربعة فراسخ من مكة .أى: أنهم لم يعلموا بجيش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جاء لمحاربتهم إلا بعد وصوله إلى هذا المكان.وبذلك ترى أن تعاليم الإسلام ترتفع بالبشرية إلى أسمى آفاق الوفاء والشرف والأمان..وتحقر من شأن الخيانة والخائنين، وتتوعدهم بالطرد من رحمة الله، وبالبعد عن رضوانه ومحبته.
﴿ تفسير البغوي ﴾
( وإما تخافن ) أي : تعلمن يا محمد ، ( من قوم ) معاهدين ، ( خيانة ) نقض عهد بما يظهر لكم منهم من آثار الغدر كما ظهر من قريظة والنضير ، ( فانبذ إليهم ) فاطرح إليهم عهدهم ، ( على سواء ) يقول : أعلمهم قبل حربك إياهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم حتى تكون أنت وهم في العلم بنقض العهد سواء ، فلا يتوهموا أنك نقضت العهد بنصب الحرب معهم ، ( إن الله لا يحب الخائنين )أخبرنا محمد بن الحسن المروزي ، أنا أبو سهل محمد بن عمر بن طرفة السجزي ، أنا أبو سليمان الخطابي أنا أبو بكر محمد بن بكر بن محمد بن عبد الرزاق بن داسة التمار ، ثنا أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني ، ثنا حفص بن عمر النمري ، ثنا شعبة عن أبي الفيض عن سليم بن عامر عن رجل من حمير قال : كان بين معاوية وبين الروم عهد ، وكان يسير نحو بلادهم ، حتى إذا انقضى العهد غزاهم ، فجاء رجل على فرس وهو يقول : الله أكبر الله أكبر ، وفاء لا غدر ، فنظر فإذا هو عمرو بن عبسة ، فأرسل إليه معاوية فسأله فقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء " . فرجع معاوية رضي الله عنه .