﴿ ياأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ﴾
﴿ تفسير السعدي ﴾
هذا مثل ضربه الله لقبح عبادة الأوثان، وبيان نقصان عقول من عبدها، وضعف الجميع، فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هذا خطاب للمؤمنين والكفار، المؤمنون يزدادون علما وبصيرة، والكافرون تقوم عليهم الحجة، ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ أي: ألقوا إليه أسماعكم، وتفهموا ما احتوى عليه، ولا يصادف منكم قلوبا لاهية، وأسماعا معرضة، بل ألقوا إليه القلوب والأسماع، وهو هذا: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شمل كل ما يدعى من دون الله، لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا الذي هو من أحقر المخلوقات وأخسها، فليس في قدرتهم خلق هذا المخلوق الضعيف، فما فوقه من باب أولى، وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ بل أبلغ من ذلك لو يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ وهذا غاية ما يصير من العجز. ضَعُفَ الطَّالِبُ الذي هو المعبود من دون الله وَالْمَطْلُوبُ الذي هو الذباب، فكل منهما ضعيف، وأضعف منهما، من يتعلق بهذا الضعيف، وينزله منزلة رب العالمين.
﴿ تفسير الوسيط ﴾
والمثل: الشبيه والنظير، ثم أطلق على القول السائر المعروف، لمماثلة مضربه- وهو الذي يضرب فيه- بمورده- وهو الذي ورد فيه أولا- ولا يكون إلا لما فيه غرابة.وإنما تضرب الأمثال لإيضاح المعنى الخفى، وتقريب الشيء المعقول من الشيء المحسوس، وعرض الغائب في صورة المشاهد، فيكون المعنى الذي ضرب له المثل أوقع في القلوب، وأثبت في النفوس.وسمى الله- تعالى- ما ساقه في هذه الآية الكريمة مثلا، لأن ما يفعله المشركون من عبادتهم لآلهة عاجزة، يشبه المثل في غرابته وفي التعجب من فعله.قال صاحب الكشاف: فإن قلت: الذي جاء به- سبحانه- ليس بمثل فكيف سماه مثلا؟.قلت: قد سميت الصفة أو القصة الرائعة الملتقاة بالاستغراب مثلا، تشبيها لها ببعض الأمثال المسيرة، لكونها مستحسنة مستغربة عندهم .والمعنى: يا أيها الناس لقد بينا لكم قصة مستغربة وحالا عجيبة. لما يعبد من دون الله- تعالى- فاستمعوا إليها بتدبر وتعقل.وقوله: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ.. بيان للمثل وتفسير له.والذباب: اسم جنس واحده ذبابة- وهي حشرة معروفة بطيشها وضعفها وقذارتها.أى: إن المعبودات الباطلة التي تعبدونها أيها المشركون، لن تستطيع أن تخلق ذبابة واحدة، حتى لو اشتركت جميعها في محاولة خلق هذه الذبابة.قال صاحب الكشاف: وهذا من أبلغ ما أنزله الله في تجهيل قريش، واستركاك عقولهم.والشهادة على أن الشيطان قد خزمهم بخزائمه- أى قد ربطهم برباطه، حيث وصفوا بالإلهية- التي تقتضي الاقتدار على المقدورات كلها- صورا وتماثيل، يستحيل منها أن تقدر على أقل ما خلقه وأذله وأصغره وأحقره، ولو اجتمعوا لذلك وتساندوا.. .وقوله- سبحانه-: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ بيان لعجز تلك الآلهة الباطلة من أمر آخر سوى الخلق.أى: وفضلا عن عجز تلك الأصنام مجتمعة عن خلق ذبابة، فإنها إذا اختطف الذباب منها شيئا من الأشياء لا تستطيع استرداده منه لعجزها عن ذلك.قال القرطبي: وخص الذباب لأربعة أمور تخصه: لمهانته وضعفه، ولاستقذاره وكثرته، فإذا كان هذا الذي هو أضعف الحيوان وأحقره، لا يقدر من عبدوه من دون الله- تعالى- على خلق مثله، ودفع أذيته، فكيف يجوز أن يكونوا آلهة معبودين، وأربابا مطاعين، وهذا من أقوى حجة وأوضح برهان .ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بما يدل على عجز الخاطف والمخطوف منه فقال:ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ.قال الآلوسى: والطالب: عابد غير الله- تعالى- والمطلوب: الآلهة، وكون عابد ذلك طالب لدعائه إياه، واعتقاده نفعه، وضعفه لطلبه النفع من غير جهته، وكون الآخر مطلوبا ظاهرا كضعفه.وقيل: «الطالب الذباب يطلب ما يسلبه من الآلهة، والمطلوب: الآلهة، على معنى المطلوب منه ما يسلب..» .وعلى أية حال فإن هذا التعليل يدل دلالة واضحة على عجز كل معبود باطل، وأنه قد تساوى في عجزه مع أضعف مخلوقات الله وأحقرها.
﴿ تفسير البغوي ﴾
( يا أيها الناس ضرب مثل ) معنى ضرب : جعل ، كقولهم : ضرب السلطان البعث على الناس ، وضرب الجزية على أهل الذمة ، أي : جعل ذلك عليهم . ومعنى الآية : جعل لي شبه ، وشبه بي الأوثان ، أي : جعل المشركون الأصنام شركائي فعبدوها ومعنى ( فاستمعوا له ) أي : فاستمعوا حالها وصفتها . ثم بين ذلك فقال :( إن الذين تدعون من دون الله ) يعني : الأصنام ، قرأ يعقوب بالياء والباقون بالتاء ( لن يخلقوا ذبابا ) واحدا في صغره وقلته لأنها لا تقدر عليه . والذباب : واحد وجمعه القليل : أذبة ، والكثير : ذبان ، مثل غراب وأغربة ، وغربان ، ( ولو اجتمعوا له ) أي : لخلقه ، ( وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ) قال ابن عباس : كانوا يطلون الأصنام بالزعفران ، فإذا جف جاء الذباب فاستلب منه .وقال السدي : كانوا يضعون الطعام بين يدي الأصنام فتقع الذباب عليه فيأكلن منه .وقال ابن زيد : كانوا يحلون الأصنام باليواقيت واللآلئ وأنواع الجواهر ، ويطيبونها بألوان الطيب فربما تسقط منها واحدة فيأخذها طائر أو ذباب فلا تقدر الآلهة على استردادها ، فذلك قوله : ( وإن يسلبهم الذباب شيئا ) أي : وإن يسلب الذباب الأصنام شيئا مما عليها لا يقدرون أن يستنقذوه منه ، ( ضعف الطالب والمطلوب ) قال ابن عباس : " الطالب " : الذباب يطلب ما يسلب من الطيب من الصنم ، و " المطلوب " : الصنم يطلب الذباب منه السلب . وقيل : على العكس : " الطالب " : الصنم و " المطلوب " : الذباب . وقال الضحاك : " الطالب " : العابد و " المطلوب " : المعبود .