إنا أنزلنا إليك -أيها الرسول- القرآن مشتملا على الحق؛ لتفصل بين الناس جميعًا بما أوحى الله إليك، وبَصَّرك به، فلا تكن للذين يخونون أنفسهم -بكتمان الحق- مدافعًا عنهم بما أيدوه لك من القول المخالف للحقيقة.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
وسرق طعمة بن ابيرق درعا وخبأها عند يهودي فوجدت عنده فرماه طعمة بها وحلف أنه ما سرقها فسأل قومه النبي صلى الله عليه وسلم أن يجادل عنه ويبرئه فنزل «إنا أنزلنا إليك الكتاب» القرآن «بالحق» متعلق بأنزل «لتحكم بين الناس بما أراك» أعلمك «الله» فيه «ولا تكن للخائنين» كطعمة «خصيما» مخاصما عنهم.
﴿ تفسير السعدي ﴾
يخبر تعالى أنه أنزل على عبده ورسوله الكتاب بالحق، أي: محفوظًا في إنزاله من الشياطين، أن يتطرق إليه منهم باطل، بل نزل بالحق، ومشتملا أيضا على الحق، فأخباره صدق، وأوامره ونواهيه عدل وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا وأخبر أنه أنزله ليحكم بين الناس. وفي الآية الأخرى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ . فيحتمل أن هذه الآية في الحكم بين الناس في مسائل النزاع والاختلاف، وتلك في تبيين جميع الدين وأصوله وفروعه، ويحتمل أن الآيتين كلتيهما معناهما واحد، فيكون الحكم بين الناس هنا يشمل الحكم بينهم في الدماء والأعراض والأموال وسائر الحقوق وفي العقائد وفي جميع مسائل الأحكام. وقوله: بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ أي: لا بهواك بل بما علَّمك الله وألهمك، كقوله تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى وفي هذا دليل على عصمته صلى الله عليه وسلم فيما يُبَلِّغ عن الله من جميع الأحكام وغيرها، وأنه يشترط في الحاكم العلم والعدل لقوله: بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ولم يقل: بما رأيت. ورتب أيضا الحكم بين الناس على معرفة الكتاب، ولما أمر الله بالحكم بين الناس المتضمن للعدل والقسط نهاه عن الجور والظلم الذي هو ضد العدل فقال: وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا أي: لا تخاصم عن مَن عرفت خيانته، من مدع ما ليس له، أو منكرٍ حقا عليه، سواء علم ذلك أو ظنه. ففي هذا دليل على تحريم الخصومة في باطل، والنيابة عن المبطل في الخصومات الدينية والحقوق الدنيوية. ويدل مفهوم الآية على جواز الدخول في نيابة الخصومة لمن لم يعرف منه ظلم.
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله تعالى : ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ) الآية ، روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار يقال له طعمة بن أبيرق من بني ظفر بن الحارث سرق درعا من جار له يقال له قتادة بن النعمان ، وكانت الدرع في جراب فيه دقيق فجعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى الدار ، ثم خبأها عند رجل من اليهود ، يقال له زيد بن السمين ، فالتمست الدرع عند طعمة فحلف : بالله ما أخذها وما له بها من علم ، فقال أصحاب الدرع : لقد رأينا أثر الدقيق حتى دخل داره ، فلما حلف تركوه واتبعوا أثر الدقيق إلى منزل اليهودي فأخذوه منه ، فقال اليهودي دفعها إلي طعمة بن أبيرق ، فجاء بنو ظفر وهم قوم طعمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه أن يجادل عن صاحبهم ، وقالوا له : إنك إن لم تفعل افتضح صاحبنا ، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعاقب اليهودي . ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما في رواية أخرى أن طعمة سرق الدرع في جراب فيه نخالة فخرق الجراب حتى كان يتناثر منه النخالة طول الطريق فجاء به إلى دار زيد السمين وتركه على بابه ، وحمل الدرع إلى بيته ، فلما أصبح صاحب الدرع جاء على أثر النخالة إلى دار زيد السمين فأخذه وحمله إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع يد زيد اليهودي ، وقال مقاتل : إن زيدا السمين أودع درعا عند طعمة فجحدها طعمة فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فقال : ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ) بالأمر والنهي والفصل ، ( لتحكم بين الناس بما أراك الله ) بما علمك الله وأوحى إليك ، ( ولا تكن للخائنين ) [ طعمة ] ( خصيما ) معينا مدافعا عنه .
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات مختلفة السياق إلا أنها متقاربة المعاني.ومن ذلك ما ذكره صاحب الكشاف من أن رجلا اسمه طعمة بن أبيرق- أحد بنى ظفر- سرق درعا من جار له أسمه قتادة ابن النعمان في جراب دقيق. فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه. وخبأ طعمة الدرع عند رجل من اليهود اسمه زيد بن السمين.فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد وحلف ما أخذها، وماله بها علم. فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها. فقال اليهودي: دفعها إلى طعمة وشهد له ناس من اليهود. فقالت بنو ظفر- أقارب طعمة-: انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما وصلوا إليه سألوه أن يجادل- أى يدافع- عن صاحبهم طعمة وقالوا: إن لم تفعل هلك وافتضح وبرىء اليهودي. فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل وأن يعاقب اليهودي. وقيل هم أن يقطع يده فنزلت .وهذه الآيات الكريمة وإن كانت قد نزلت في حادثة معينة، إلا أن توجيهاتها وأحكامها تتناول جميع المكلفين في كل زمان ومكان.وقوله تعالى إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وإرشاد إلى ما يجب أن يكون عليه الحاكم أو القاضي من عدالة ونزاهة.أى: إنا أنزلنا إليك يا محمد القرآن الكريم، إنزالا ملتبسا بالحق وبالعدل لكي تحكم بين الناس في قضاياهم بما أراك الله. أى بما عرفك وأعلمك وأوحى به إليك وقوله بِالْحَقِّ في محل نصب على الحال المؤكدة فيتعلق بمحذوف. وصاحب الحال هو الكتاب. أى: أنزلناه ملتبسا بالحق.وقوله بِما أَراكَ الفعل هنا متعد لاثنين أحدهما العائد المحذوف والآخر كاف الخطاب أى: بما أراكه الله. أى: بما عرفك وأعلمك.وسمى ذلك العلم بالرؤية، لأن العلم اليقيني المبرأ عن جهات الريب يكون جاريا مجرى الرؤية في القوة والظهور.قال ابن كثير: احتج من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان صلى الله عليه وسلم له أن يحكم بالاجتهاد بهذه الآية. وبما ثبت في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصوم بباب حجرته فخرج إليهم فقال: «ألا إنما أنا بشر. وإنما أقضى بنحو مما أسمع. ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له. فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار، فليحملها أو ليذرها» .وفي رواية للإمام أحمد عن السيدة أم سلمة- أيضا- قالت: جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد درست. ليس عندهما بينه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم تختصمون إلى وإنما أنا بشر. ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض.فإنى أقضى بينكم على نحو ما أسمع. فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار.. فبكى الرجلان وقال كل منهما: حقي لأخى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إذا قلتما ذلك فاذهبا فاقتسما، ثم توخيا الحق بينكما ثم استهما. ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه» .وقوله «ولا تكن للخائنين خصيما» معطوف على كلام مقدر يفهم من المقام. والخصيم هنا بمعنى المنتصر المدافع عن غيره فهو اسم فاعل بمعنى مخاصم وجمعه الخصماء. وأصله من الخصم وهو ناحية الشيء وطرفه. وقيل للخصمين خصمان، لأن كل واحد منهما في ناحية من الحجة والدعوى.والمعنى: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاحكم به ولا تكن لأجل الخائنين مخاصما للبراء، بأن تجعل فكرك ينحاز إلى أولئك الخائنين- الذين يظهرون الإسلام- قبل سماع البينات الهادية المرشدة إلى الحق.وسماهم- سبحانه- خائنين، لأنهم في علمه- تعالى- كانوا كذلك وقد أخبر نبيه بخيانتهم ليحذرهم ولا يحسن الظن بهم.قال القرطبي: قال العلماء: لا ينبغي إذا ظهر للمسلمين نفاق قوم أن يجادل فريق منهم فريقا عنهم ليحموهم ويدفعوا عنهم. فإن هذا قد وقع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم نزل قوله- تعالى- وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً. وقوله: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ.والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد منه الذين كانوا يفعلونه من المسلمين دونه لوجهين:أحدهما: أنه- تعالى- أبان ذلك بما ذكره بعد بقوله ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا. والآخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حكما فيما بينهم، ولذلك كان يعتذر إليه ولا يعتذر هو إلى غيره فدل على أن القصد لغيره
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
يقول تعالى مخاطبا لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم : ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ) أي : هو حق من الله ، وهو يتضمن الحق في خبره وطلبه .وقوله : ( لتحكم بين الناس بما أراك الله ) احتج به من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان ، عليه السلام ، له أن يحكم بالاجتهاد بهذه الآية ، وبما ثبت في الصحيحين من رواية هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن زينب بنت أم سلمة ، عن أم سلمة ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصم بباب حجرته ، فخرج إليهم فقال : " ألا إنما أنا بشر ، وإنما أقضي بنحو مما أسمع ، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له ، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو ليذرها " .وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا أسامة بن زيد ، عن عبد الله بن رافع ، عن أم سلمة قالت : جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد درست ، ليس عندهما بينة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنكم تختصمون إلي ، وإنما أنا بشر ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض ، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار ، يأتي بها إسطاما في عنقه يوم القيامة " . فبكى الرجلان وقال كل منهما : حقي لأخي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما ، ثم توخيا الحق ، ثم استهما ، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه " .وقد رواه أبو داود من حديث أسامة بن زيد ، به . وزاد : " إني إنما أقضي بينكما برأي فيما لم ينزل علي فيه " .وقد روى ابن مردويه ، من طريق العوفي ، عن ابن عباس قال : إن نفرا من الأنصار غزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته ، فسرقت درع لأحدهم ، فأظن بها رجل من الأنصار ، فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن طعمة بن أبيرق سرق درعي ، فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء ، وقال لنفر من عشيرته : إني غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان ، وستوجد عنده . فانطلقوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليلا فقالوا : يا نبي الله ، إن صاحبنا بريء . وإن صاحب الدرع فلان ، وقد أحطنا بذلك علما ، فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه . فإنه إلا يعصمه الله بك يهلك ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرأه وعذره على رؤوس الناس ، فأنزل الله : ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ) [ يقول : احكم بما أنزل الله إليك في الكتاب ] ( واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما . ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم [ إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما ] ) ثم قال للذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين بالكذب : ( يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله [ وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا . ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا ] ) يعني : الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين يجادلون عن الخائنين ثم قال : ( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه [ ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ] ) يعني : الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين بالكذب ، ثم قال : ( ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا ) يعني : السارق والذين جادلوا عن السارق . وهذا سياق غريب وكذا ذكر مجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، والسدي ، وابن زيد وغيرهم في هذه الآية أنها أنزلت في سارق بني أبيرق على اختلاف سياقاتهم ، وهي متقاربة .وقد روى هذه القصة محمد بن إسحاق مطولة ، فقال أبو عيسى الترمذي عند تفسير هذه الآية من جامعه ، وابن جرير في تفسيره :حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب أبو مسلم الحراني ، حدثنا محمد بن سلمة الحراني ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن أبيه ، عن جده قتادة بن النعمان ، رضي الله عنه ، قال : كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق : بشر وبشير ومبشر ، وكان بشير رجلا منافقا ، يقول الشعر يهجو به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ينحله بعض العرب ، ثم يقول : قال فلان كذا وكذا ، وقال فلان كذا وكذا ، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر قالوا : والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث ؟ - أو كما قال الرجل - وقالوا ابن الأبيرق قالها . قالوا : وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام ، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير ، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة من الشام من الدرمك ابتاع الرجل منها فخص بها نفسه ، وأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير ، فقدمت ضافطة من الشام ، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك فحطه في مشربة له ، وفي المشربة سلاح : درع وسيف ، فعدي عليه من تحت البيت ، فنقبت المشربة وأخذ الطعام والسلاح . فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي ، إنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه . فنقبت مشربتنا وذهب بطعامنا وسلاحنا . قال : فتجسسنا في الدار وسألنا ، فقيل لنا : قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ، ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم .قال : وكان بنو أبيرق قالوا - ونحن نسأل في الدار - : والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل رجلا منا له صلاح وإسلام . فلما سمع لبيد اخترط سيفه وقال : أنا أسرق ؟ والله ليخالطنكم هذا السيف ، أو لتبينن هذه السرقة . قالوا : إليك عنا أيها الرجل ، فما أنت بصاحبها . فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها .فقال لي عمي : يا ابن أخي ، لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له . قال قتادة : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد ، فنقبوا مشربة له ، وأخذوا سلاحه وطعامه . فليردوا علينا سلاحنا ، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه . فقال النبي صلى الله عليه وسلم " سآمر في ذلك " .فلما سمع بنو أبيرق أتوا رجلا منهم يقال له : أسير بن عمرو فكلموه في ذلك ، فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار فقالوا : يا رسول الله ، إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح ، يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت . قال قتادة : فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فكلمته ، فقال : " عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ، ترميهم بالسرقة على غير ثبت ولا بينة ؟ ؟قال : فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ، ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فأتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي ، ما صنعت ؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : الله المستعان . فلم نلبث أن نزل القرآن : ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ) بني أبيرق
﴿ تفسير القرطبي ﴾
قوله تعالى : إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمافيه أربع مسائل :الأولى : في هذه الآية تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وتكريم وتعظيم وتفويض إليه ، وتقويم أيضا على الجادة في الحكم ، وتأنيب على ما رفع إليه من أمر بني أبيرق ! وكانوا ثلاثة إخوة : بشر وبشير ومبشر ، وأسير بن عروة ابن عم لهم ؛ نقبوا مشربة لرفاعة بن زيد في الليل وسرقوا أدراعا له وطعاما ، فعثر على ذلك . وقيل إن السارق بشير وحده ، وكان يكنى أبا طعمة أخذ درعا ؛ قيل : كان الدرع في جراب فيه دقيق ، فكان الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى داره ، فجاء ابن أخي رفاعة واسمه قتادة بن النعمان يشكوهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء أسير بن عروة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن هؤلاء عمدوا إلى أهل بيت هم أهل صلاح ودين فأنبوهم بالسرقة ورموهم بها من غير بينة ؛ وجعل يجادل عنهم حتى غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتادة ورفاعة ؛ فأنزل الله تعالى : ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم الآية . وأنزل الله تعالى : ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا وكان البريء الذي رموه بالسرقة لبيد بن سهل . وقيل : زيد بن السمين وقيل : رجل من الأنصار . فلما أنزل الله ما أنزل ، هرب ابن أبيرق السارق إلى مكة ، ونزل على سلافة بنت سعد بن شهيد ؛ فقال فيها حسان بن ثابت بيتا يعرض فيه بها ، وهو :وقد أنزلته بنت سعد وأصبحت ينازعها جلد استها وتنازعه ظننتم بأن يخفى الذي قد صنعتمووفينا نبي عنده الوحي واضعهفلما بلغها قالت : إنما أهديت لي شعر حسان ؛ وأخذت رحله فطرحته خارج المنزل ، فهرب إلى خيبر وارتد . ثم إنه نقب بيتا ذات ليلة ليسرق فسقط الحائط عليه فمات مرتدا . ذكر هذا الحديث بكثير من ألفاظه الترمذي وقال : حديث حسن غريب ، لا نعلم أحدا أسنده غير محمد بن سلمة الحراني . وذكره الليث والطبري بألفاظ مختلفة . وذكر قصة موته يحيى بن سلام في تفسيره ، والقشيري كذلك وزاد ذكر الردة . ثم قيل : كان زيد بن السمين ولبيد بن سهل يهوديين . وقيل : كان لبيد مسلما . وذكره المهدوي ، وأدخله أبو عمر في كتاب الصحابة له ، فدل ذلك على إسلامه عنده . وكان بشير رجلا منافقا يهجو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وينحل الشعر غيره ، وكان المسلمون يقولون : والله ما هو إلا شعر الخبيث . فقال شعرا يتنصل فيه ؛ فمنه قوله :أوكلما قال الرجال قصيدة نحلت وقالوا ابن الأبيرق قالهاوقال الضحاك : أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع يده وكان مطاعا ، فجاءت اليهود شاكين في السلاح فأخذوه وهربوا به ؛ فنزل ها أنتم هؤلاء يعني اليهود . والله أعلم .الثانية : قوله تعالى : بما أراك الله معناه على قوانين الشرع ؛ إما بوحي ونص ، أو بنظر جار على سنن الوحي . وهذا أصل في القياس ، وهو يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى شيئا أصاب ؛ لأن الله تعالى أراه ذلك ، وقد ضمن الله تعالى لأنبيائه العصمة ؛ فأما أحدنا إذا رأى شيئا يظنه فلا قطع فيما رآه ، ولم يرد رؤية العين هنا ؛ لأن الحكم لا يرى بالعين . وفي الكلام إضمار ، أي بما أراكه الله ، وفيه إضمار آخر ، وامض الأحكام على ما عرفناك من غير اغترار باستدلالهم .الثالثة : قوله تعالى : ولا تكن للخائنين خصيما اسم فاعل ؛ كقولك : جالسته فأنا جليسه ، ولا يكون فعيلا هنا بمعنى مفعول ؛ يدل على ذلك ولا تجادل فالخصيم هو المجادل وجمع الخصيم خصماء . وقيل : خصيما مخاصما اسم فاعل أيضا . فنهى الله عز وجل رسوله عن عضد أهل التهم والدفاع عنهم بما يقوله خصمهم من الحجة . وفي هذا دليل على أن النيابة عن المبطل والمتهم في الخصومة لا تجوز . فلا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محق . ومشى الكلام في السورة على حفظ أموال اليتامى والناس ؛ فبين أن مال الكافر محفوظ عليه كمال المسلم ، إلا في الموضع الذي أباحه الله تعالى .المسألة الرابعة : قال العلماء : ولا ينبغي إذا ظهر للمسلمين نفاق قوم أن يجادل فريق منهم فريقا عنهم ليحموهم ويدفعوا عنهم ؛ فإن هذا قد وقع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم نزل قوله تعالى : ولا تكن للخائنين خصيما وقوله : ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم . والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد منه الذين كانوا يفعلونه من المسلمين دونه لوجهين : أحدهما : أنه تعالى أبان ذلك بما ذكره بعد بقوله : ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا . والآخر : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حكما فيما بينهم ، ولذلك كان يعتذر إليه ولا يعتذر هو إلى غيره ، فدل على أن القصد لغيره .
﴿ تفسير الطبري ﴾
القول في تأويل قوله : إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله "،" إنا أنزلنا إليك " يا محمد=" الكتاب "، يعني: القرآن=" لتحكم بين الناس "، لتقضي بين الناس فتفصل بينهم=" بما أراك الله "، يعني: بما أنزل الله إليك من كتابه=" ولا تكن للخائنين خصيمًا "، يقول: ولا تكن لمن خان مسلمًا أو معاهدًا في نفسه أو ماله=" خصيما " تخاصم عنه، وتدفع عنه من طالبه بحقِّه الذي خانه فيه. =
﴿ إنا أنـزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ﴾