ودخل موسى المدينة مستخفيًا وقت غفلة أهلها، فوجد فيها رجلين يقتتلان: أحدهما من قوم موسى من بني إسرائيل، والآخر من قوم فرعون، فطلب الذي من قوم موسى النصر على الذي من عدوه، فضربه موسى بجُمْع كفِّه فمات، قال موسى حين قتله: هذا من نزغ الشيطان، بأن هيَّج غضبي، حتى ضربت هذا فهلك، إن الشيطان عدو لابن آدم، مضل عن سبيل الرشاد، ظاهر العداوة. وهذا العمل من موسى عليه السلام كان قبل النبوة.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«ودخل» موسى «المدينة» مدينة فرعون وهي منف بعد أن غاب عنه مدة «على حين غفلة من أهلها» وقت القيلولة «فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته» أي إسرائيلي «وهذا من عدوه» أي قبطي يسخر إسرائيلياً ليحمل حطباً إلى مطبخ فرعون «فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه» فقال له موسى خلِّ سبيله فقيل إنه قال لموسى لقد هممت أن أحمله عليك «فوكزه موسى» أي ضربه بجمع كفه وكان شديد القوة والبطش «فقضى عليه» قتله ولم يكن يقصد قتله ودفنه في الرمل «قال هذا» قتله «من عمل الشيطان» المهيج غضبي «إنه عدو» لابن آدم «مضل» له «مبين» بيّن الإضلال.
﴿ تفسير السعدي ﴾
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا إما وقت القائلة، أو غير ذلك من الأوقات التي بها يغفلون عن الانتشار. فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ أي: يتخاصمان ويتضاربان هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ أي: من بني إسرائيل وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ القبط. فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ لأنه قد اشتهر، وعلم الناس أنه من بني إسرائيل، واستغاثته لموسى، دليل على أنه بلغ موسى عليه السلام مبلغا يخاف منه، ويرجى من بيت المملكة والسلطان. فَوَكَزَهُ مُوسَى أي: وكز الذي من عدوه، استجابة لاستغاثة الإسرائيلي، فَقَضَى عَلَيْهِ أي: أماته من تلك الوكزة، لشدتها وقوة موسى.فندم موسى عليه السلام على ما جرى منه، و قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ أي: من تزيينه ووسوسته، إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ فلذلك أجريت ما أجريت بسبب عداوته البينة، وحرصه على الإضلال.
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله تعالى : ( ودخل المدينة ) يعني : دخل موسى المدينة . قال السدي : هي مدينة " منف " من أرض مصر . وقال مقاتل : كانت قرية " حابين " على رأس فرسخين من مصر . وقيل : مدينة " عين الشمس " ، ( على حين غفلة من أهلها ) وقت القائلة واشتغال الناس بالقيلولة . وقال محمد بن كعب القرظي : دخلها فيما بين المغرب والعشاء . واختلفوا في السبب الذي من أجله دخل المدينة في هذا الوقت . قال السدي : وذلك أن موسى - عليه السلام - كان يسمى : ابن فرعون ، فكان يركب مراكب فرعون ويلبس مثل ملابسه ، فركب فرعون يوما وليس عنده موسى ، فلما جاء موسى قيل له : إن فرعون قد ركب ، فركب في أثره فأدركه المقيل بأرض " منف " فدخلها نصف النهار ، وليس في طرفها أحد ، فذلك قوله - عز وجل - : ( ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها ) قال ابن إسحاق : كان لموسى شيعة من بني إسرائيل يستمعون منه ويقتدون به ، فلما عرف ما هو عليه من الحق رأى فراق فرعون وقومه ، فخالفهم في دينه حتى ذكر ذلك منه وخافوه وخافهم ، فكان لا يدخل قرية إلا خائفا مستخفيا ، فدخلها يوما على حين غفلة من أهلها . وقال ابن زيد : لما علا موسى فرعون بالعصا في صغره ، فأراد فرعون قتله ، قالت امرأته : هو صغير ، فترك قتله وأمر بإخراجه من مدينته ، فلم يدخل عليهم إلا بعد أن كبر وبلغ أشده فدخل المدينة على حين غفلة من أهلها يعني : عن ذكر موسى ، أي : من بعد نسيانهم خبره وأمره لبعد عهدهم به .وروي عن علي في قوله : " حين غفلة " كان يوم عيد لهم قد اشتغلوا بلهوهم ولعبهم . ( فوجد فيها رجلين يقتتلان ) يختصمان ويتنازعان ، ( هذا من شيعته ) بني إسرائيل ، ( وهذا من عدوه ) من القبط . قيل : الذي كان من شيعته : السامري . والذي من عدوه من القبط قيل : طباخ فرعون اسمه فليثون . وقيل : " هذا من شيعته . وهذا من عدوه " أي : هذا مؤمن وهذا كافر ، وكان القبطي يسخر الإسرائيلي ليحمل الحطب إلى المطبخ . قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : لما بلغ موسى أشده لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل بظلم حتى امتنعوا كل الامتناع ، وكان بنو إسرائيل قد عزوا بمكان موسى ؛ لأنهم كانوا يعلمون أنه منهم ، فوجد موسى رجلين يقتتلان أحدهما من بني إسرائيل والآخر من آل فرعون ، ( فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه ) فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني ، والاستغاثة : طلب الغوث ، فغضب موسى واشتد غضبه ; لأنه تناوله وهو يعلم منزلة موسى من بني إسرائيل وحفظه لهم ، ولا يعلم الناس إلا أنه من قبل الرضاعة من أم موسى ، فقال للفرعوني : خل سبيله ، فقال : إنما أخذته ليحمل الحطب إلى مطبخ أبيك ، فنازعه . فقال الفرعوني لقد هممت أن أحمله عليك ، وكان موسى قد أوتي بسطة في الخلق وشدة في القوة والبطش ، ( فوكزه موسى ) وقرأ ابن مسعود : " فلكزه موسى " ، ومعناهما واحد ، وهو الضرب بجمع الكف . وقيل : " الوكز " الضرب في الصدر " واللكز " في الظهر . وقال الفراء : معناهما واحد ، وهو الدفع . قال أبو عبيدة : الوكز الدفع بأطراف الأصابع ، وفي بعض التفاسير : عقد موسى ثلاثا وثمانين وضربه في صدره ، ( فقضى عليه ) أي : فقتله وفرغ من أمره ، وكل شيء فرغت منه فقد قضيته وقضيت عليه . فندم موسى - عليه السلام - ولم يكن قصده القتل ، فدفنه في الرمل ، ( قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين ) أي : بين الضلالة .
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ثم حكى- سبحانه- بعض الأحداث التي تعرض لها موسى- عليه السلام- في تلك الحقبة من عمره فقال: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها.والمراد بالمدينة: مصر، وقيل: ضاحية من ضواحيها، كعين شمس، أو منف.وجملة عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها حال من الفاعل. أى: دخلها مستخفيا.قيل: والسبب في دخوله على هذه الحالة، أنه بدت منه مجاهرة لفرعون وقومه بما يكرهون، فخافهم وخافوه. فاختفى وغاب، فدخلها متنكرا .أى: وفي يوم من الأيام، وبعد أن بلغ موسى سن القوة والرشد، دخل المدينة التي يسكنها فرعون وقومه: عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها أى: دخلها مستخفيا في وقت كان أهلها غافلين عما يجرى في مدينتهم من أحداث، بسبب راحتهم في بيوتهم في وقت القيلولة، أو ما يشبه ذلك.فَوَجَدَ موسى فِيها أى في المدينة رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ أى: يتخاصمان ويتنازعان في أمر من الأمور.هذا مِنْ شِيعَتِهِ أى: أحد الرجلين كان من طائفته وقبيلته. أى: من بنى إسرائيل:وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ أى: والرجل الثاني كان من أعدائه وهم القبط الذين كانوا يسيمون بنى إسرائيل سوء العذاب.فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ أى: فطلب الرجل الإسرائيلى من موسى، أن ينصره على الرجل القبطي.والاستغاثة: طلب الغوث والنصرة، ولتضمنه معنى النصرة عدى بعلى.فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ والفاء هنا فصيحة. والوكز: الضرب بجميع الكف.قال القرطبي: والوكز واللكز واللهز بمعنى واحد، وهو الضرب بجميع الكف .أى: فاستجاب موسى لمن استنصر به، فوكز القبطي، أى: فضربه بيده مضمومة أصابعها في صدره، فَقَضى عَلَيْهِ أى: فقتله. وهو لا يريد قتله، وإنما كان يريد دفعه ومنعه من ظلم الرجل الإسرائيلى.والتعبير بقوله- تعالى-: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ يشير إلى أن موسى- عليه السلام- كان على جانب عظيم من قوة البدن، كما يشير- أيضا- إلى ما كان عليه من مروءة عالية. حملته على الانتصار للمظلوم بدون تقاعس أو تردد.ولكن موسى- عليه السلام- بعد أن رأى القبطي جثة هامدة، استرجع وندم، وقال:هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ أى: قال موسى: هذا الذي فعلته وهو قتل القبطي، من عمل الشيطان ومن وسوسته. ومن تزيينه.إِنَّهُ أى: الشيطان عَدُوٌّ للإنسان مُضِلٌّ له عن طريق الحق مُبِينٌ أى: ظاهر العداوة والإضلال.
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
فقال تعالى : ( ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها ) قال ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : وذلك بين المغرب والعشاء .وقال ابن المنكدر ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس : كان ذلك نصف النهار . وكذلك قال سعيد بن جبير ، وعكرمة ، والسدي ، وقتادة .( فوجد فيها رجلين يقتتلان ) أي : يتضاربان ويتنازعان ، ( هذا من شيعته ) أي : من بني إسرائيل ، ( وهذا من عدوه ) أي : قبطي ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والسدي ، ومحمد بن إسحاق . فاستغاث الإسرائيلي بموسى ، عليه السلام ، ووجد موسى فرصة ، وهي غفلة الناس ، فعمد إلى القبطي ( فوكزه موسى فقضى عليه ) .قال مجاهد : وكزه ، أي : طعنه بجمع كفه . وقال قتادة : وكزه بعصا كانت معه .( فقضى عليه ) أي : كان فيها حتفه فمات ، قال موسى : ( هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين )
﴿ تفسير القرطبي ﴾
ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها قيل : لما عرف موسى عليه السلام ما هو عليه من الحق في دينه ، عاب ما عليه قوم فرعون ; وفشا ذلك منه فأخافوه فخافهم ، فكان لا يدخل مدينة فرعون إلا خائفا مستخفيا . وقال السدي : كان موسى في وقت هذه القصة على رسم التعلق بفرعون ، وكان يركب مراكبه ، حتى كان يدعى موسى ابن فرعون ; فركب فرعون يوما وسار إلى مدينة من مدائن مصر يقال لها منف قال مقاتل على رأس فرسخين من مصر ثم علم موسى بركوب فرعون ، فركب بعده ولحق بتلك القرية في وقت القائلة ، وهو وقت الغفلة ; قاله ابن عباس وقال أيضا : هو بين العشاء والعتمة وقال ابن إسحاق : بل المدينة مصر نفسها ، وكان موسى في هذا الوقت قد أظهر خلاف فرعون ، وعاب عليهم عبادة فرعون والأصنام ، فدخل مدينة فرعون يوما على حين غفلة من أهلها قال سعيد بن جبير وقتادة : وقت الظهيرة والناس نيام وقال ابن زيد : كان فرعون قد نابذ موسى وأخرجه من المدينة ، وغاب عنها سنين وجاء والناس على غفلة بنسيانهم لأمره ، وبعد عهدهم به ، وكان ذلك يوم عيد . وقال الضحاك : طلب أن يدخل المدينة وقت غفلة أهلها ، فدخلها حين علم ذلك منهم ، فكان منه من قتل الرجل من قبل أن يؤمر بقتله ، فاستغفر ربه فغفر له . ويقال في الكلام : دخلت المدينة حين غفل أهلها ، ولا يقال : على حين غفل أهلها ; فدخلت ( على ) في هذه الآية لأن الغفلة هي المقصودة ; فصار هذا كما تقول : جئت على غفلة ، وإن شئت قلت : جئت على حين غفلة ، وكذا الآية فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته والمعنى : إذا نظر إليهما الناظر قال هذا من شيعته ; أي من بني إسرائيل وهذا من عدوه أي من قوم فرعون فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه أي طلب نصره وغوثه ، وكذا قال في الآية بعدها : فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه أي يستغيث به على قبطي آخر وإنما أغاثه لأن نصر المظلوم دين في الملل كلها على الأمم ، وفرض في جميع الشرائع قال قتادة : أراد القبطي أن يسخر الإسرائيلي ليحمل حطبا لمطبخ فرعون فأبى عليه ، فاستغاث بموسى قال سعيد بن جبير : وكان خبازا لفرعون فوكزه موسى فقضى عليه قال قتادة : بعصاه ، وقال مجاهد : بكفه ; أي دفعه . والوكز واللكز واللهز واللهد بمعنى واحد ، وهو الضرب بجمع الكف مجموعا كعقد ثلاثة وسبعين وقرأ ابن مسعود : ( فلكزه ) وقيل : اللكز في اللحي والوكز على القلب . وحكى الثعلبي أن في مصحف عبد الله بن مسعود ( فنكزه ) بالنون والمعنى واحد وقال الجوهري عن أبي عبيدة : اللكز : الضرب بالجمع على الصدر . وقال أبو زيد : في جميع الجسد ، واللهز : الضرب بجمع اليد في الصدر مثل اللكز ; عن أبي عبيدة أيضا وقال أبو زيد : هو بالجمع في اللهازم والرقبة ; والرجل ملهز بكسر الميم وقال الأصمعي : نكزه ; أي ضربه ودفعه الكسائي : نهزه مثل نكزه ووكزه ، أي ضربه ودفعه ، ولهده لهدا ، أي : دفعه لذله ، فهو ملهود ; وكذلك لهده ; قال طرفة يذم رجلا :بطيء عن الداعي سريع إلى الخنا ذلول بأجماع الرجال ملهدأي مدفع . وإنما شدد للكثرة . وقالت عائشة رضي الله عنها : فلهدني تعني النبي صلى الله عليه وسلم لهدة أوجعني . خرجه مسلم ففعل موسى عليه السلام ذلك وهو لا يريد قتله ، إنما قصد دفعه فكانت فيه نفسه ، وهو معنى : فقضى عليه وكل شيء أتيت عليه وفرغت منه فقد قضيت عليه . قال :قد عضه فقضى عليه الأشجعقال هذا من عمل الشيطان أي من إغوائه . قال الحسن : لم يكن يحل قتل الكافر يومئذ في تلك الحال ; لأنها كانت حال كف عن القتال . إنه عدو مضل مبين خبر بعد خبر .
﴿ تفسير الطبري ﴾
القول في تأويل قوله تعالى : وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)يقول تعالى ذكره: (وَدَخَلَ) موسى (الْمَدِينَةَ) مدينة منف من مصر ( عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا ) وذلك عند القائلة، نصف النهار.واختلف أهل العلم في السبب الذي من أجله دخل موسى هذه المدينة في هذا الوقت, فقال بعضهم: دخلها متبعا أثر فرعون, لأن فرعون ركب وموسى غير شاهد; فلما حضر علم بركوبه فركب واتبع أثره, وأدركه المقيل في هذه المدينة.* ذكر من قال ذلك:حدثنا موسى, قال: ثنا عمرو, قال: ثنا أسباط, عن السدي, قال: كان موسى حين كبر يركب مراكب فرعون, ويلبس مثل ما يلبس , وكان إنما يُدعى موسى بن فرعون, ثم إن فرعون ركب مركبا وليس عنده موسى; فلما جاء موسى قيل له: إن فرعون قد ركب, فركب في أثره فأدركه المقيل بأرض يقال لها منف, فدخلها نصف النهار, وقد تغلقت أسواقها, وليس في طرقها أحد, وهي التي يقول الله: ( وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا ).وقال آخرون: بل دخلها مستخفيا من فرعون وقومه, لأنه كان قد خالفهم في دينهم, وعاب ما كانوا عليه.* ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن حميد, قال: ثنا سلمة, عن ابن إسحاق, قال: لَمَّا بلغ موسى أشده واستوى, آتاه الله حكما وعلما, فكانت له من بني إسرائيل شيعة يسمعون منه ويطيعونه ويجتمعون إليه, فلما استد (1) رأيه, وعرف ما هو عليه من الحقّ, رأى فراق فرعون وقومه على ما هم عليه حقا في دينه, فتكلم وعادى وأنكر, حتى ذكر منه, وحتى أخافوه وخافهم, حتى كان لا يدخل قرية فرعون إلا خائفا مستخفيا, فدخلها يوما على حين غفلة من أهلها.وقال آخرون: بل كان فرعون قد أمر بإخراجه من مدينته حين علاه بالعصا, فلم يدخلها إلا بعد أن كبر وبلع أشدّه. قالوا: ومعنى الكلام: ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها لذكر موسى: أي من بعد نسيانهم خبره وأمره.* ذكر من قال ذلك:- حدثنا يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا ) قال: ليس غفلة من ساعة, ولكن غفلة من ذكر موسى وأمره. وقال فرعون لامرأته: أخرجيه عني, حين ضرب رأسه بالعصا, هذا الذي قُتِلتْ فيه &; 19-538 &; بنو إسرائيل, فقالت: هو صغير, وهو كذا, هات جمرا, فأتي بجمر, فأخذ جمرة فطرحها في فيه فصارت عقدة في لسانه, فكانت تلك العقدة التي قال الله وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي قال: أخرجيه عني, فأخرج, فلم يدخل عليهم حتى كبر, فدخل على حين غفلة من ذكره.وأولى الأقوال في الصحة بذلك أن يقال كما قال الله جلّ ثناؤه: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى ... وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا .واختلفوا في الوقت الذي عُني بقوله: ( عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا ) فقال بعضهم: ذلك نصف النهار.* ذكر من قال ذلك:حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثنى حجاج, عن ابن جُرَيج, عن محمد بن المنكدر, عن عطاء بن يسار, عن ابن عباس, قوله: ( وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ ) قال: نصف النهار. قال ابن جُرَيج, عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس, قال: يقولون في القائلة, قال: وبين المغرب والعشاء.حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قَتادة, قوله: ( وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا ) قال: دخلها بعد ما بلغ أشده عند القائلة نصف النهار.حدثني موسى, قال: ثنا عمرو, قال: ثنا أسباط, عن السدي, قال: دخل نصف النهار.وقوله: ( فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ ) يقول: هذا من أهل دين موسى من بني إسرائيل ( وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ ) من القبط من قوم فرعون ( فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ ) يقول: فاستغاثه الذي هو من أهل دين موسى على الذي من عدوّه من القبط ( فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ ) يقول: فلكزه ولهزه في صدره بجمع كفه.وبنحو الذي قلنا في ذلك, قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: ثنا حفص, عن الأعمش, عن سعيد بن جُبَيْر, قال: أساء موسى من حيث أساء, وهو شديد الغضب شديد القوّة, فمرّ برجل من القبط قد تسخر رجلا من المسلمين , قال: فلما رأى موسى استغاث به, قال: يا موسى, &; 19-539 &; فقال موسى: خلّ سبيله, فقال: قد هممت أن أحمله عليك ( فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ ) قال: حتى إذا كان الغد نصف النهار خرج ينظر الخبر، قال: فإذا ذاك الرجل قد أخذه آخر في مثل حده; قال: فقال: يا موسى, قال: فاشتدّ غضب موسى, قال: فأهوى, قال: فخاف أن يكون إياه يريد, قال: فقال: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ ؟ قال: فقال الرجل: ألا أراك يا موسى أنت الذي قتلت!حدثنا أبو كُرَيب, قال: ثنا عثام بن عليّ, قال: ثنا الأعمش, عن سعيد بن جُبَيْر: ( فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ ) قال: رجل من بني إسرائيل يقاتل جبارا لفرعون ( فَاسْتَغَاثَهُ ... فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ ) فلما كان من الغد, استصرخ به فوجده يقاتل آخر, فأغاثه, فقال: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ فعرفوا أنه موسى, فخرج منها خائفا يترقب, قال عثام: أو نحو هذا.حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قَتادة ( فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ ) أما الذي من شيعته فمن بني إسرائيل, وأما الذي من عدوه فقبطي من آل فرعون.حدثنا موسى, قال: ثنا عمرو, قال: ثنا أسباط, عن السدي ( فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ ) يقول: من القبط ( فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ).حدثنا العباس بن الوليد, قال: أخبرنا يزيد, قال: أخبرنا الأصبغ بن زيد, قال: ثنا القاسم بن أبي أيوب, قال: ثني سعيد بن جُبَيْر, عن ابن عباس, قال: لما بلغ موسى أشدّه, وكان من الرجال, لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة, حتى امتنعوا كلّ الامتناع, فبينا هو يمشي ذات يوم في ناحية المدينة, إذا هو برجلين يقتتلان: أحدهما من بني إسرائيل, والآخر من آل فرعون, فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني, فغضب موسى واشتد غضبه, لأنه تناوله وهو يعلم منزلة موسى من بني إسرائيل, وحفظه لهم, ولا يعلم الناس إلا أنما ذلك من قبل الرضاعة من أم موسى إلا أن يكون الله اطلع موسى من ذلك على علم ما لم يطلع عليه غيره, فوكز موسى الفرعوني فقتله, ولم يرهما أحد إلا الله والإسرائيلي, ف (قَالَ) موسى حين قتل الرجل ( هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ )... الآية.حدثنا ابن حميد, قال: ثنا سلمة, عن ابن إسحاق ( فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ ) مسلم, وهذا من أهل دين فرعون كافر ( فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ) وكان موسى قد أوتي بسطة في الخلق, وشدّة في البطش فغضب بعدوّهما فنازعه ( فَوَكَزَهُ مُوسَى ) وكزة قتله منها وهو لا يريد قتله, ف ( قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ).حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ ) قال: من قومه من بني إسرائيل, وكان فرعون من فارس من اصطخر.حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد, بنحوه.قال: ثني حجاج , عن أبي بكر بن عبد الله, عن أصحابه ( هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ ) إسرائيلي ( وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ ) قبطي ( فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ).وبنحو الذي قلنا أيضا قالوا في معنى قوله: ( فَوَكَزَهُ مُوسَى ).* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث, قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( فَوَكَزَهُ مُوسَى ) قال: بجمع كفه.حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج , عن ابن جُرَيج , عن مجاهد, مثله.حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قَتادة ( فَوَكَزَهُ مُوسَى ) نبي الله, ولم يتعمد قتله.حدثنا ابن حميد, قال: ثنا سلمة, عن ابن إسحاق, قال: قتله وهو لا يريد قتله.وقوله: ( فَقَضَى عَلَيْهِ ) يقول: ففرغ من قتله. وقد بيَّنت فيما مضى أن معنى القضاء: الفراغ بما أغنى عن إعادته ههنا.ذكر أنه قتله ثم دفنه في الرمل.كما حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن أبي بكر بن عبد الله, عن أصحابه (فوكزه موسى فقضى عليه) ثم دفنه في الرمل.وقوله: ( قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ) يقول تعالى ذكره: قال موسى حين قتل القتيل: هذا القتل من تسبب الشيطان لي بأن هيَّج غضبي حتى ضربت هذا فهلك من ضربتي، ( إِنَّهُ عَدُوٌّ ) يقول: إن الشيطان عدو لابن آدم (مُضِلٌّ) له عن سبيل الرشاد بتزيينه له القبيح من الأعمال, وتحسينه ذلك له (مُبِينٌ) يعني أنه يبين عداوته لهم قديما, وإضلاله إياهم.------------------------الهوامش:(1) استد رأيه: من السداد! أي أحكم عقله، وقويت تجاربه.
﴿ ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين ﴾