قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: هاتوا شهداءكم الذين يشهدون أن الله تعالى هو الذي حرَّم ما حرَّمتم من الحرث والأنعام، فإن شهدوا -كذبًا وزورًا- فلا تصدقهم، ولا توافق الذين حكَّموا أهواءهم، فكذبوا بآيات الله فيما ذهبوا إليه من تحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرم الله، ولا تتبع الذين لا يصدقون بالحياة الآخرة ولا يعملون لها، والذين هم بربهم يشركون فيعبدون معه غيره.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«قل هلمَّ» أحضروا «شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرَّم هذا» الذي حرمتموه «فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون» يشركون.
﴿ تفسير السعدي ﴾
أي: قل لمن حرَّم ما أحل الله، ونسب ذلك إلى الله: أحْضِروا شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا، فإذا قيل لهم هذا الكلام، فهم بين أمرين: إما: أن لا يحضروا أحدا يشهد بهذا، فتكون دعواهم إذًا باطلة، خلية من الشهود والبرهان. وإما: أن يحضروا أحدا يشهد لهم بذلك، ولا يمكن أن يشهد بهذا إلا كل أفاك أثيم غير مقبول الشهادة، وليس هذا من الأمور التي يصح أن يشهد بها العدول؛ ولهذا قال تعالى –ناهيا نبيه، وأتباعه عن هذه الشهادة-: فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ أي: يسوون به غيره من الأنداد والأوثان. فإذا كانوا كافرين باليوم الآخر غير موحدين لله، كانت أهويتهم مناسبة لعقيدتهم، وكانت دائرة بين الشرك والتكذيب بالحق، فحري بهوى هذا شأنه، أن ينهى الله خيار خلقه عن اتباعه، وعن الشهادة مع أربابه، وعلم حينئذ أن تحريمهم لما أحل الله صادر عن تلك الأهواء المضلة.
﴿ تفسير البغوي ﴾
( قل هلم ) يقال للواحد والاثنين والجمع ، ( شهداءكم الذين يشهدون ) أي : ائتوا بشهدائكم الذين يشهدون ، ( أن الله حرم هذا ) هذا راجع إلى ما تقدم من تحريمهم الأشياء على أنفسهم ودعواهم أن الله أمرهم به ، ( فإن شهدوا ) كاذبين ، ( فلا تشهد ) أنت ، ( معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون ) أي : يشركون .
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ثم أمر الله- تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يطالب المشركين بإحضار من يشهد لهم بأن الله قد حرم عليهم ما زعموا تحريمه من الحرث والأنعام وغيرها فقال:قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا.هلم: لفظ يقصد به الدعوة إلى الشيء، وهي اسم فعل بمعنى أقبل إذا كان لازما، وبمعنى أحضر وائت إذا كان متعديا كما هنا، ويستوي فيه الواحد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث في لغة الحجازيين.أى: أحضروا شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم عليكم هذا الذي زعمتم تحريمه، وهم كبراؤهم الذين أسسوا ضلالهم.والمقصود من إحضارهم تفضيحهم وإلزامهم الحجة، وإظهار أنه لا متمسك لهم كمقلدين، ولذلك قيد الشهداء بالإضافة، ووصفوا بما يدل على أنهم شهداء معروفون بالشهادة لهم وبنصر مذهبهم.ثم قال- سبحانه- فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ أى: فإن فرض إحضار هؤلاء الشهود الذين عرفوا بضلالهم فلا تصدقهم ولا تقبل شهادتهم ولا تسلمها لهم بالسكوت عليها فإن السكوت عن الباطل في مثل هذا المقام كالشهادة به وإنما عليك أن تبين لهم بطلان زعمهم بواسطة ما آتاك الله من حجج وبينات.قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف أمره باستحضار شهدائهم الذين يشهدون أن الله حرم ما زعموه محرما ثم أمره بأن لا يشهد معهم؟ قلت: أمره باستحضارهم وهم شهداء بالباطل ليلزمهم الحجة ويلقمهم الحجر، ويظهر للمشهود لهم بانقطاع الشهداء أنهم ليسوا على شيء لتساوى أقدام الشاهدين والمشهود لهم في أنهم لا يرجعون إلى ما يصح التمسك به. وقوله فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ يعنى فلا تسلم لهم ما شهدوا به ولا تصدقهم، لأنه إذا سلم لهم فكأنه شهيد معهم مثل شهادتهم وكان واحدا منهم .ثم قال- سبحانه- وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أى: ولا تتبع أهواء هؤلاء الناس الذين كذبوا بآياتنا التي أنزلها الله عليك لتكون هداية ونورا لقوم يعقلون، فإن شهادتهم- إن وقعت- فإنما هي صادرة عن هوى وضلال.ولم يقل- سبحانه- ولا تتبع أهواءهم بل قال: ولا تتبع أهواء الذين كذبوا، فوضع الظاهر موضع الضمير لبيان أن المكذب بهذه الآيات والحجج الظاهرة إمعانا في التمسك بتقاليده الباطلة، إنما هو صاحب هوى وظن لا صاحب علم وحجة.وقوله وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ عطف على الموصوف قبله لتعدد صفاتهم القبيحة.أى: ولا تتبع أهواء الذين يجمعون بين تكذيب آيات الله، وبين الكفر بالآخرة، وبين جعلهم لله عديلا أى شريكا مع أنه- سبحانه- هو الخالق لكل شيء، لأن هذه الصفات لا تؤهلهم لشهادة حق، ولا للثقة بهم، وإنما للاحتقار في الدنيا، ولسوء العذاب في الآخرة.وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد حكت في بضع عشرة آية جانبا من رذائل المشركين وسخف تقاليدهم وعبث أهوائهم وفساد معاذيرهم وبطلان شبهاتهم وردت عليهم بما يخرس ألسنتهم، ويبطل حجتهم، فيما أحلوه وحرموه في شأن النذور والذبائح والمطاعم والمشارب وغير ذلك مما حكته الآيات الكريمة.ثم تنتقل السورة بعد ذلك إلى أفق أرحب وأوسع، وإلى ميدان أفسح وأشمل فتناديهم بأسلوب مؤثر بليغ ليستمعوا إلى ما حرم الله عليهم فيجتنبوه وإلى ما كلفهم به فيعملوه، تناديهم ليتدبروا في الأصول الكلية التي تقوم عليها العقيدة السليمة، ويسعد بها المجتمع، ويحيا في ظلها الأفراد والجماعات في أمان واطمئنان. تناديهم ليسمعوا البيان الصحيح الحق فيما أحل الله وحرم من الأفعال والأقوال ليسمعوه ممن له وحده الحق في أن يقوله، وفي أن يتلقى عنه تناديهم فتقول:
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
وقوله تعالى : ( قل هلم شهداءكم ) أي : أحضروا شهداءكم ( الذين يشهدون أن الله حرم هذا ) أي : هذا الذي حرمتموه وكذبتم وافتريتم على الله فيه ، ( فإن شهدوا فلا تشهد معهم ) أي : لأنهم إنما يشهدون والحالة هذه كذبا وزورا ، ( ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون ) أي : يشركون به ، ويجعلون له عديلا .
﴿ تفسير القرطبي ﴾
قوله تعالى قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلونقوله تعالى قل هلم شهداءكم أي قل لهؤلاء المشركين أحضروا شهداءكم على أن الله حرم ما حرمتم . و هلم كلمة دعوة إلى شيء ، ويستوي فيه الواحد والجماعة والذكر والأنثى عند أهل الحجاز ، إلا في لغة نجد فإنهم يقولون : هلما هلموا هلمي ، يأتون بالعلامة كما تكون في سائر الأفعال . وعلى لغةأهل الحجاز جاء القرآن ، قال الله تعالى : والقائلين لإخوانهم هلم إلينا يقول : هلم أي احضر أو ادن . وهلم الطعام ، أي هات الطعام . والمعنى هاهنا : هاتوا شهداءكم ، وفتحت الميم لالتقاء الساكنين ; كما تقول : رد يا هذا ، ولا يجوز ضمها ولا كسرها . والأصل عند الخليل " ها " ضمت إليها " لم " ثم حذفت الألف لكثرة الاستعمال . وقال غيره . الأصل " هل " زيدت عليها " لم " . وقيل : هي على لفظها تدل على معنى هات . وفي كتاب العين للخليل : أصلها هل أؤم ، أي هل أقصدك ، ثم كثر استعمالهم إياها حتى صار المقصود بقولها احضر كما أن تعال أصلها أن يقولها المتعالي للمتسافل ; فكثر استعمالهم إياها حتى صار المتسافل يقول للمتعالي تعال .قوله تعالى فإن شهدوا أي شهد بعضهم لبعض .فلا تشهد معهم أي فلا تصدق أداء الشهادة إلا من كتاب أو على لسان نبي ، وليس معهم شيء من ذلك .
﴿ تفسير الطبري ﴾
القول في تأويل قوله : قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء المفترين على ربهم من عبدة الأوثان, الزاعمين أنّ الله حرم عليهم ما هم محرموه من حروثهم وأنعامهم =(هلم شهداءكم)، يقول: هاتوا شهداءكم الذين يشهدون على الله أنه حرم عليكم ما تزعمون أنه حرمه عليكم . (8)* * *وأهل العالية من تهامة توحِّد " هلم " في الواحد والاثنين والجميع, وتذكر في المؤنث والمذكر, فتقول للواحد: " هلم يا فلان "، وللاثنين والجميع كذلك, وللأنثى مثله، ومنه قول الأعشى:وَكَانَ دَعَا قَوْمَهُ دَعْوَةًهَلُمَّ إلَى أَمْرِكُمْ قَدْ صُرِمْ (9)ينشد: " هلم "، و " هلموا " . وأما أهل السافلة من نجد، فإنهم يوحِّدون للواحد، ويثنُّون للاثنين، ويجمعون للجميع. فيقال للواحد من الرجال: " هلم " وللواحدة من النساء: " هلمي", وللاثنين: " هلما ", وللجماعة من الرجال: " هلموا ", وللنساء: " هَلْمُمْنَ". (10)* * *قال الله لنبيه: (فإن شهدوا)، يقول: يا محمد, فإن جاءوك بشهداء يشهدون أن الله حَرَّم ما يزعمون أن الله حرمه عليهم =(فلا تشهد معهم)، فإنهم كذبة وشهود زور في شهادتهم بما شهدوا به من ذلك على الله . وخاطب بذلك جل ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم, والمراد به أصحابه والمؤمنون به =(ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا)، يقول: ولا تتابعهم على ما هم عليه من التكذيب بوحي الله وتنزيله، في تحريم ما حرم، وتحليل ما أحل لهم, ولكن اتبع ما أوحي إليك من كتاب ربك الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه =(والذين لا يؤمنون بالآخرة)، يقول: ولا تتبع أهواء الذين لا يؤمنون بالآخرة, فتكذب بما هم به مكذبون من إحياء الله خلقه بعد مماتهم، ونشره إياهم بعد فنائهم =(وهم بربهم يعدلون)، يقول: وهم مع تكذيبهم بالبعث بعد الممات، وجحودهم قيام الساعة، بالله يعدلون الأوثانَ والأصنامَ, فيجعلونها له عِدْلا ويتخذونها له ندًّا يعبدونها من دونه . (11)* * *وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .* ذكر من قال ذلك:14133- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: (هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا)، يقول: قل أروني الذين يشهدون أن الله حرم هذا مما حرمت العرب, وقالوا: أمرنا الله به . قال الله لرسوله: (فإن شهدوا فلا تشهد معهم) .14134- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: (هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا)، قال: البحائر والسُّيَّب .----------------------الهوامش :(8) انظر تفسير (( الشهداء )) فيما سلف من فهارس اللغة (( شهد )) .(9) ديوانه 34 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 208 ، من قصيدة طويلة مضت منها أبيات في مواضع متفرقة ، وهذا البيت داخل في قصة (( الحضر )) ، وما أصاب أهله ، تركت نقل أبياتها لطولها .(10) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1 : 208 ، فهذا نص كلامه .(11) انظر تفسير (( العدل )) فيما سلف 11 : 251 - 254 .
﴿ قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون ﴾