وما أرسلنا قبلك - أيها الرسول - أحدًا مِن رسلنا إلا كانوا بشرًا، يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق. وجعلنا بعضكم- أيها الناس- لبعض ابتلاء واختبارًا بالهدى والضلال، والغنى والفقر، والصحة والمرض، هل تصبرون، فتقوموا بما أوجبه الله عليكم، وتشكروا له، فيثيبكم مولاكم، أو لا تصبرون فتستحقوا العقوبة؟ وكان ربك - أيها الرسول - بصيرًا بمن يجزع أو يصبر، وبمن يكفر أو يشكر.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق» فأنت مثلهم في ذلك، وقد قيل لهم مثل ما قيل لك «وجلنا بعضكم لبعض فتنة» بلية ابتلى الغني بالفقير والصحيح بالمريض، والشريف بالوضيع يقول الثاني في كلّ: ما لي لا أكون كالأول في كلّ: «أتصبرون» على ما تسمعون ممن ابتليتم بهم استفهام بمعنى الأمر: أي اصبروا «وكان ربك بصيرا» بمن يصبر وبمن يجزع.
﴿ تفسير السعدي ﴾
ثم قال تعالى جوابا لقول المكذبين: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ في الْأَسْوَاقِ فما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما جعلناهم ملائكة، فلك فيهم أسوة، وأما الغنى والفقر فهو فتنة وحكمة من الله تعالى كما قال: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً الرسول فتنة للمرسل إليهم واختبار للمطيعين من العاصين والرسل فتناهم بدعوة الخلق، والغنى فتنة للفقير والفقير فتنة للغني، وهكذا سائر أصناف الخلق في هذه الدار دار الفتن والابتلاء والاختبار.والقصد من تلك الفتنة أَتَصْبِرُونَ فتقومون بما هو وظيفتكم اللازمة الراتبة فيثيبكم مولاكم أم لا تصبرون فتستحقون المعاقبة؟ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا يعلم أحوالكم، ويصطفي من يعلمه يصلح لرسالته ويختصه بتفضيله ويعلم أعمالكم فيجازيكم عليها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله - عز وجل - : ( وما أرسلنا قبلك من المرسلين ) يا محمد ، ( إلا إنهم ليأكلون الطعام ) روى الضحاك عن ابن عباس قال : لما عير المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، أنزل الله - عز وجل - هذه الآية . يعني : ما أنا إلا رسول وما كنت بدعا من الرسل ، وهم كانوا بشرا يأكلون الطعام ، ( ويمشون في الأسواق ) وقيل : معناه وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا قيل لهم مثل هذا أنهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق كما قال في موضع آخر : ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ( فصلت - 43 ) .( وجعلنا بعضكم لبعض فتنة ) أي بلية ، فالغني فتنة للفقير ، يقول الفقير : ما لي لم أكن مثله ؟ والصحيح فتنة للمريض ، والشريف فتنة للوضيع . وقال ابن عباس : أي جعلت بعضكم بلاء لبعض لتصبروا على ما تسمعون منهم ، وترون من خلافهم ، وتتبعوا الهدى . وقيل : نزلت في ابتلاء الشريف بالوضيع; وذلك أن الشريف إذا أراد أن يسلم فرأى الوضيع قد أسلم قبله أنف ، وقال : أسلم بعده فيكون له علي السابقة والفضل ؟ ! فيقيم على كفره ويمتنع من الإسلام ، فذلك افتتان بعضهم ببعض ، وهذا قول الكلبي وقال مقاتل : نزلت في أبي جهل ، والوليد بن عقبة ، والعاص بن وائل ، والنضر بن الحارث; وذلك أنهم لما رأوا أبا ذر ، وابن مسعود ، وعمارا ، وبلالا وصهيبا ، وعامر بن فهيرة ، وذويهم ، قالوا : نسلم فنكون مثل هؤلاء ؟ . وقال : نزلت في ابتلاء فقراء المؤمنين بالمستهزئين من قريش ، كانوا يقولون : انظروا إلى هؤلاء الذين اتبعوا محمدا من موالينا وأراذلنا ، فقال الله تعالى لهؤلاء المؤمنين : ( أتصبرون ) يعني على هذه الحالة من الفقر والشدة والأذى .( وكان ربك بصيرا ) بمن صبر وبمن جزع . أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، حدثنا زكريا بن يحيى المروزي ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن أبي الزناد عن الأعرج ، عن أبي هريرة يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والجسم فلينظر إلى من دونه في المال والجسم " .
﴿ تفسير الوسيط ﴾
أى: وما أرسلنا قبلك- أيها الرسول الكريم- أحدا من رسلنا، إلا وحالهم وشأنهم أنهم يأكلون الطعام الذي يأكله غيرهم من البشر. ويمشون في الأسواق كما يمشى غيرهم من الناس، طلبا للرزق.وإذا فقول المشركين في شأنك «مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشى في الأسواق» قول يدل على جهالاتهم وسوء نياتهم فلا تتأثر به، ولا تلتفت إليه، فأنت على الحق وهم على الباطل.وقوله- تعالى-: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً بيان لسنة من سنن الله- تعالى- في خلقه، اقتضتها حكمته ومشيئته.أى: اختبرنا بعضكم ببعض، وبلونا بعضكم ببعض، ليظهر قوى الإيمان من ضعيفه، إذ أن قوى الإيمان لتصديقه بقضاء الله وقدره يثبت على الحق ويلتزم بما أمره الله- تعالى- به، أما ضعيف الإيمان فإنه يحسد غيره على ما آتاه الله- تعالى- من فضله. كما حسد المشركون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على منصب النبوة الذي أعطاه الله- تعالى- إياه وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ .قال القرطبي: قوله- تعالى-: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ أى: إن الدنيا دار بلاء وامتحان، فأراد- سبحانه- أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض على العموم في جميع الناس، فالصحيح: فتنة للمريض. والغنى: فتنة للفقير.. ومعنى هذا، أن كل واحد مختبر بصاحبه، فالغنى ممتحن بالفقير، فعليه أن يواسيه ولا يسخر منه، والفقير ممتحن بالغنى، فعليه أن لا يحسده. ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق.. والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس من الكفار في عصره ...فالفتنة: أن يحسد المبتلى المعافى. والصبر: أن يحبس كلاهما نفسه، هذا عن البطر وذاك عن الضجر.. .والاستفهام في قوله- تعالى-: أَتَصْبِرُونَ للتقرير. أى: أتصبرون على هذا الابتلاء والاختبار فتنالوا من الله- تعالى- الأجر، أم لا تصبرون فيزداد همكم وغمكم؟ويصح أن يكون الاستفهام بمعنى الأمر. أى: اصبروا على هذا الابتلاء كما في قوله- تعالى-: ... وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ.. أى: أسلموا.. وكما في قوله- سبحانه-: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ أى: انتهوا عن الخمر والميسر.ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً أى: وكان ربك أيها الرسول الكريم- بصيرا بأحوال النفوس الطاهرة والخفية، وبتقلبات القلوب وخلجاتها.فاصبر على أذى قومك، فإن العاقبة لك ولأتباعك المؤمنين.فهذا التذييل فيه ما فيه من التسلية والتثبيت لفؤاد النبي صلّى الله عليه وسلّم.ثم حكت السورة للمرة الرابعة تطاول المشركين وجهالاتهم، وردت عليهم بما يخزيهم، وبينت ما أعد لهم من عذاب في يوم لا ينفعهم فيه الندم.
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
يقول تعالى مخبرا عن جميع من بعثه من الرسل المتقدمين : إنهم كانوا يأكلون الطعام ، ويحتاجون إلى التغذي به ( ويمشون في الأسواق ) أي : للتكسب والتجارة ، وليس ذلك بمناف لحالهم ومنصبهم; فإن الله جعل لهم من السمات الحسنة ، والصفات الجميلة ، والأقوال الفاضلة ، والأعمال الكاملة ، والخوارق الباهرة ، والأدلة [ القاهرة ] ، ما يستدل به كل ذي لب سليم ، وبصيرة مستقيمة ، على صدق ما جاءوا به من الله عز وجل . ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى ) [ يوسف : 109 ] ( وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين ) [ الأنبياء : 8 ] .وقوله : ( وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون ) أي : اختبرنا بعضكم ببعض ، وبلونا بعضكم ببعض ، لنعلم من يطيع ممن يعصي; ولهذا قال : ( أتصبرون وكان ربك بصيرا ) أي : بمن يستحق أن يوحى إليه ، كما قال تعالى : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) [ الأنعام : 124 ] ، ومن يستحق أن يهديه الله لما أرسلهم به ، ومن لا يستحق ذلك .وقال محمد بن إسحاق في قوله : ( وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون ) قال : يقول الله : لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون ، لفعلت ، ولكني قد أردت أن أبتلي العباد بهم ، وأبتليهم بهم .وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله : إني مبتليك ، ومبتل بك " . وفي المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة " ، وفي الصحيح أنه - عليه أفضل الصلاة والسلام - خير بين أن يكون نبيا ملكا أو عبدا رسولا فاختار أن يكون عبدا رسولا .
﴿ تفسير القرطبي ﴾
قوله تعالى : وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا .فيه تسع مسائل :الأولى : قوله تعالى : وما أرسلنا قبلك من المرسلين نزلت جوابا للمشركين حيث قالوا : ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق . وقال ابن عباس : لما عير المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاقة وقالوا : ما لهذا الرسول يأكل الطعام الآية حزن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك فنزلت تعزية له ; فقال جبريل عليه السلام : السلام عليك يا رسول الله ! الله ربك يقرئك السلام ويقول لك : وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق أي يبتغون المعايش في الدنيا .الثانية : قوله تعالى : إلا إنهم ليأكلون الطعام إذا دخلت اللام لم يكن في ( إن ) إلا الكسر ، ولو لم تكن اللام ما جاز أيضا إلا الكسر ; لأنها مستأنفة . هذا قول جميع النحويين . قال النحاس : إلا إن علي بن سليمان حكى لنا عن محمد بن يزيد قال : يجوز في ( إن ) هذه الفتح وإن كان بعدها اللام ; وأحسبه وهما منه . قال أبو إسحاق الزجاج : وفي الكلام حذف ; والمعنى : وما أرسلنا قبلك رسلا إلا إنهم ليأكلون الطعام ، ثم حذف " رسلا " لأن في قوله : من المرسلين ما يدل عليه . فالموصوف محذوف عند الزجاج . ولا يجوز عنده حذف الموصول وتبقية الصلة كما قال الفراء . قال الفراء : والمحذوف " من " والمعنى : إلا من إنهم ليأكلون الطعام . وشبهه بقوله : وما منا إلا له مقام معلوم ، وقوله وإن منكم إلا واردها أي ما منكم إلا من هو واردها . وهذا قول الكسائي أيضا . وتقول العرب : ما بعثت إليك من الناس إلا من إنه ليطيعك . فقولك : إنه ليطيعك صلة " من " . قال الزجاج : هذا خطأ ; لأن " من " موصولة فلا يجوز حذفها . وقال أهل المعاني : المعنى : وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا قيل إنهم ليأكلون ، دليله قوله تعالى : ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك . وقال ابن الأنباري : كسرت " إنهم " بعد إلا للاستئناف بإضمار واو . أي إلا وإنهم . وذهبت فرقة إلى أن قوله : ليأكلون الطعام كناية عن الحدث .قلت : وهذا بليغ في معناه ، ومثله ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام . ويمشون في الأسواق قرأ الجمهور يمشون بفتح الياء وسكون الميم وتخفيف الشين . وقرأ علي وابن عوف وابن مسعود بضم الياء وفتح الميم وشد الشين المفتوحة ، بمعنى يدعون إلى المشي ويحملون عليه . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي بضم الياء وفتح الميم وضم الشين المشددة ، وهي بمعنى يمشون ; قال الشاعر :ومشى بأعطان المباءة وابتغى قلائص منها صعبة وركوبوقال كعب بن زهير :منه تظل سباع الجو ضامزة ولا تمشي بواديه الأراجيلبمعنى تمشي .الثالثة : هذه الآية أصل في تناول الأسباب وطلب المعاش بالتجارة والصناعة وغير ذلك . وقد مضى هذا المعنى في غير موضع ، لكنا نذكر هنا من ذلك ما يكفي فنقول : قال لي بعض مشايخ هذا الزمان في كلام جريء : إن الأنبياء عليهم السلام إنما بعثوا ليسنوا الأسباب للضعفاء ; فقلت مجيبا له : هذا قول لا يصدر إلا من الجهال والأغبياء والرعاع السفهاء ، أو من طاعن في الكتاب والسنة العلياء ; وقد أخبر الله تعالى في كتابه عن أصفيائه ورسله وأنبيائه بالأسباب والاحتراف فقال وقوله الحق : وعلمناه صنعة لبوس لكم . وقال : وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق قال العلماء : أي يتجرون ويحترفون . وقال عليه الصلاة والسلام : جعل رزقي تحت ظل رمحي وقال تعالى : فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا وكان الصحابة رضي الله عنهم يتجرون ويحترفون وفي أموالهم يعملون ، ومن خالفهم من الكفار يقاتلون ; أتراهم ضعفاء ! بل هم كانوا والله الأقوياء ، وبهم الخلف الصالح اقتدى ، وطريقهم فيه الهدى والاهتداء . قال : إنما تناولوها لأنهم أئمة الاقتداء ، فتناولوها مباشرة في حق الضعفاء ، فأما في حق أنفسهم فلا ; وبيان ذلك أصحاب الصفة .قلت : لو كان ذلك لوجب عليهم وعلى الرسول معهم البيان ; كما ثبت في القرآن وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم وقال : إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى الآية . وهذا من البينات والهدى . وأما أصحاب الصفة فإنهم كانوا ضيف الإسلام عند ضيق الحال ، فكان عليه السلام إذا أتته صدقة خصهم بها ، وإذا أتته هدية أكلها معهم ، وكانوا مع هذا يحتطبون ويسوقون الماء إلى أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم . كذا وصفهم البخاري وغيره . ثم لما افتتح الله عليهم البلاد ومهد لهم المهاد تأمروا . وبالأسباب أمروا . ثم إن هذا القول يدل على ضعف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ; لأنهم أيدوا بالملائكة وثبتوا بهم ، فلو كانوا أقوياء ما احتاجوا إلى تأييد الملائكة ، وتأييدهم إذ ذلك سبب من أسباب النصر ; نعوذ بالله من قول وإطلاق يئول إلى هذا ، بل القول بالأسباب والوسائط سنة الله وسنة رسوله ، وهو الحق المبين ، والطريق المستقيم الذي انعقد عليه إجماع المسلمين ; وإلا كان يكون قوله الحق : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل - الآية - مقصورا على الضعفاء ، وجميع الخطابات كذلك . وفي التنزيل حيث خاطب موسى الكليم اضرب بعصاك البحر وقد كان قادرا على فلق البحر دون ضرب عصا . وكذلك مريم عليها السلام وهزي إليك بجذع النخلة وقد كان قادرا على سقوط الرطب دون هز ولا تعب ; ومع هذا كله فلا ننكر أن يكون رجل يلطف به ويعان ، أو تجاب دعوته ، أو يكرم بكرامة في خاصة نفسه أو لأجل غيره ، ولا تهد لذلك القواعد الكلية والأمور الجملية . هيهات هيهات ! لا يقال : فقد قال الله تعالى : وفي السماء رزقكم وما توعدون فإنا نقول : صدق الله العظيم ، وصدق رسوله الكريم ، وإن الرزق هنا المطر بإجماع أهل التأويل ; بدليل قوله : وينزل لكم من السماء رزقا وقال : ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد ولم يشاهد ينزل من السماء على الخلق أطباق الخبز ولا جفان اللحم ، بل الأسباب أصل في وجود ذلك ، ومعنى قوله عليه السلام : اطلبوا الرزق في خبايا الأرض أي بالحرث والحفر والغرس . وقد يسمى الشيء بما يئول إليه ، وسمي المطر رزقا لأنه عنه يكون الرزق ، وذلك مشهور في كلام العرب . وقال عليه السلام : لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يسأل أحدا أعطاه أو منعه وهذا فيما خرج من غير تعب من الحشيش والحطب . ولو قدر رجل بالجبال منقطعا عن الناس لما كان له بد من الخروج إلى ما تخرجه الآكام وظهور الأعلام حتى يتناول من ذلك ما يعيش به ; وهو معنى قوله عليه السلام : لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا فغدوها ورواحها سبب ; فالعجب العجب ممن يدعي التجريد والتوكل على التحقيق ، ويقعد على ثنيات الطريق ، ويدع الطريق المستقيم ، والمنهج الواضح القويم . ثبت في البخاري عن ابن عباس قال : كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون ، فإذا قدموا سألوا الناس ; فأنزل الله تعالى وتزودوا . ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أنهم خرجوا إلى أسفارهم بغير زاد ، وكانوا المتوكلين حقا . والتوكل اعتماد القلب على الرب في أن يلم شعثه ويجمع عليه أربه ; ثم يتناول الأسباب بمجرد الأمر . وهذا هو الحق . سأل رجل الإمام أحمد بن حنبل فقال : إني أريد الحج على قدم التوكل . فقال : اخرج وحدك ; فقال : لا ، إلا مع الناس . فقال له : أنت إذن متكل على أجربتهم . وقد أتينا على هذا في كتاب ( قمع الحرص بالزهد والقناعة ورد ذل السؤال بالكسب والصناعة ) .الرابعة : خرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها . وخرج البزار عن سلمان الفارسي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فإنها معركة الشيطان وبها ينصب رايته . أخرجه أبو بكر البرقاني مسندا عن أبي محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ - من رواية عاصم - عن أبي عثمان النهدي عن سلمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فبها باض الشيطان وفرخ . ففي هذه الأحاديث ما يدل على كراهة دخول الأسواق لا سيما في هذه الأزمان التي يخالط فيها الرجال النسوان . وهكذا قال علماؤنا لما كثر الباطل في الأسواق وظهرت فيها المناكر : كره دخولها لأرباب الفضل والمقتدى بهم في الدين تنزيها لهم عن البقاع التي يعصى الله فيها . فحق على من ابتلاه الله بالسوق أن يخطر بباله أنه قد دخل محل الشيطان ومحل جنوده ، وإنه إن أقام هناك هلك ، ومن كانت هذه حاله اقتصر منه على قدر ضرورته ، وتحرز من سوء عاقبته وبليته .الخامسة : تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم السوق بالمعركة تشبيه حسن ; وذلك أن المعركة موضع القتال ، سمي بذلك لتعارك الأبطال فيه ، ومصارعة بعضهم بعضا . فشبه السوق وفعل الشيطان بها ونيله منهم مما يحملهم من المكر والخديعة ، والتساهل في البيوع الفاسدة والكذب والأيمان الكاذبة ، واختلاط الأصوات وغير ذلك - بمعركة الحرب ومن يصرع فيها .السادسة : قال ابن العربي : أما أكل الطعام فضرورة الخلق لا عار ولا درك فيه ، وأما الأسواق فسمعت مشيخة أهل العلم يقولون : لا يدخل إلا سوق الكتب والسلاح ، وعندي أنه يدخل كل سوق للحاجة إليه ولا يأكل فيها ; لأن ذلك إسقاط للمروءة وهدم للحشمة ; ومن الأحاديث الموضوعة ( الأكل في السوق دناءة ) .قلت : ما ذكرته مشيخة أهل العلم فنعما هو ; فإن ذلك خال عن النظر إلى النسوان ومخالطتهن ; إذ ليس ذلك من حاجتهن . وأما غيرهما من الأسواق ، فمشحونة منهن ، وقلة الحياء قد غلبت عليهن ، حتى ترى المرأة في القيساريات وغيرهن قاعدة متبرجة بزينتها ، وهذا من المنكر الفاشي في زماننا هذا . نعوذ بالله من سخطه .السابعة : خرج أبو داود الطيالسي في مسنده حدثنا حماد بن زيد قال حدثنا عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير عن سالم عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال : ( من دخل سوقا من هذه الأسواق فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة وبنى له قصرا في الجنة ) خرجه الترمذي أيضا وزاد بعد ( ومحا عنه ألف ألف سيئة ) : ( ورفع له ألف ألف درجة وبنى له بيتا في الجنة ) . وقال : هذا حديث غريب . قال : ابن العربي : وهذا إذا لم يقصد في تلك البقعة سواه ليعمرها بالطاعة إذ عمرت بالمعصية ، وليحليها بالذكر إذ عطلت بالغفلة ، وليعلم الجهلة ويذكر الناسين .الثامنة : قوله تعالى : وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون أي إن الدنيا دار بلاء وامتحان ، فأراد سبحانه أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض على العموم في جميع الناس مؤمن وكافر ، فالصحيح فتنة للمريض ، والغني فتنة للفقير ، والفقير الصابر فتنة للغني . ومعنى هذا أن كل واحد مختبر بصاحبه ، فالغني ممتحن بالفقير ، عليه أن يواسيه ولا يسخر منه . والفقير ممتحن بالغني ، عليه ألا يحسده ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه ، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق ; كما قال الضحاك في معنى أتصبرون : أي على الحق . وأصحاب البلايا يقولون : لم لم نعاف ؟ والأعمى يقول : لم لم أجعل كالبصير ؟ وهكذا صاحب كل آفة . والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس من الكفار في عصره . وكذلك العلماء وحكام العدل . ألا ترى إلى قولهم لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم . فالفتنة أن يحسد المبتلى المعافى ، ويحقر المعافى المبتلى . والصبر : أن يحبس كلاهما نفسه ، هذا عن البطر ، وذاك عن الضجر . أتصبرون محذوف الجواب ، يعني : أم لا تصبرون . فيقتضي جوابا كما قال المزني ، وقد أخرجته الفاقة فرأى خصيا في مراكب ومناكب ، فخطر بباله شيء فسمع من يقرأ الآية : أتصبرون فقال : بلى ربنا ! نصبر ونحتسب . وقد تلا ابن القاسم صاحب مالك هذه الآية حين رأى أشهب بن عبد العزيز في مملكته عابرا عليه ، ثم أجاب نفسه بقوله : سنصبر . وعن أبي الدرداء أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ويل للعالم من الجاهل وويل للجاهل من العالم ، وويل للمالك من المملوك وويل للمملوك من المالك ، وويل للشديد من الضعيف وويل للضعيف من الشديد ، وويل للسلطان من الرعية وويل للرعية من السلطان ، وبعضهم لبعض فتنة وهو قوله : وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون أسنده الثعلبي تغمده الله برحمته . وقال مقاتل : نزلت في أبي جهل بن هشام والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل ، وعقبة بن أبي معيط وعتبة بن ربيعة والنضر بن الحارث حين رأوا أبا ذر وعبد الله بن مسعود ، وعمارا وبلالا وصهيبا وعامر بن فهيرة ، وسالما مولى أبي حذيفة ومهجعا مولى عمر بن الخطاب وجبرا مولى الحضرمي ، وذويهم ; فقالوا على سبيل الاستهزاء : أنسلم فنكون مثل هؤلاء ؟ فأنزل الله تعالى يخاطب هؤلاء المؤمنين : أتصبرون على ما ترون من هذه الحال الشديدة والفقر ; فالتوقيف ب أتصبرون خاص للمؤمنين المحقين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم . كأنه جعل إمهال الكفار والتوسعة عليهم فتنة للمؤمنين ، أي اختبارا لهم . ولما صبر المسلمون أنزل الله فيهم : إني جزيتهم اليوم بما صبروا . التاسعة : قوله تعالى : وكان ربك بصيرا أي بكل امرئ وبمن يصبر أو يجزع ، ومن يؤمن ومن لا يؤمن ، وبمن أدى ما عليه من الحق ومن لا يؤدي . وقيل : أتصبرون أي اصبروا . مثل فهل أنتم منتهون أي انتهوا ، فهو أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالصبر .
﴿ تفسير الطبري ﴾
وهذا احتجاج من الله تعالى ذكره لنبيه على مشركي قومه الذين قالوا: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ وجواب لهم عنه يقول لهم جلّ ثناؤه: وما أنكر يا محمد هؤلاء القائلون: ما لهذا الرسول يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق, من أكلك الطعام، ومشيك في الأسواق, وأنت لله رسول، فقد علموا أنا ما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، كالذي تأكل أنت وتمشي, فليس لهم عليك بما قالوا من ذلك حجة.فإن قال قائل: فإن (من) ليست في التلاوة, فكيف قلت: معنى الكلام: إلا من إنهم ليأكلون الطعام؟ قيل: قلنا في ذلك: معناه: أن الهاء والميم في قوله: إنهم, كناية أسماء لم تذكر, ولا بد لها من أن تعود على من كُني عنه بها, وإنما ترك ذكر " من " وإظهاره في الكلام اكتفاء بدلالة قوله: ( مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) عليه, كما اكتفي في قوله: وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ من إظهار " من ", ولا شكّ أن معنى ذلك: وما منا إلا من له مقام معلوم, كما قيل وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا ومعناه: وإن منكم إلا من هو واردها، فقوله: ( إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ) صلة لمن المتروك, كما يقال في الكلام: ما أرسلت إليك من الناس إلا من إنه ليبلغك الرسالة, فإنه ليبلغك الرسالة، صلة لمن.وقوله: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) يقول تعالى ذكره: وامتحنا أيها الناس بعضكم ببعض, جعلنا هذا نبيا وخصصناه بالرسالة, وهذا ملِكا وخصصناه بالدنيا, وهذا فقيرًا وحرمناه الدنيا لنختبر الفقير بصبره على ما حرم مما أعطيه الغنيّ, والملك بصبره على ما أعطيه الرسول من الكرامة, وكيف رضي كل إنسان منهم بما أعطى، وقسم له, وطاعته ربه مع ما حرم مما أعطى غيره. يقول فمن أجل ذلك لم أعط محمدا الدنيا, وجعلته يطلب المعاش في الأسواق, ولأبتليكم أيها الناس, وأختبر طاعتكم ربكم وإجابتكم رسوله إلى ما دعاكم إليه, بغير عرض من الدنيا ترجونه من محمد أن يعطيكم على اتباعكم إياه، لأني لو أعطيته الدنيا, لسارع كثير منكم إلى اتباعه طمعا في دنياه أن يَنال منها.وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: ثنا ابن علية, عن أبي رجاء, قال: ثني عبد القدوس, عن الحسن, في قوله: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) ... الآية, يقول هذا الأعمى: لو شاء الله لجعلني بصيرا مثل فلان, ويقول هذا الفقير: لو شاء الله لجعلني غنيا مثل فلان, ويقول هذا السقيم: لوشاء الله لجعلني صحيحا مثل فلان.حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, في قوله: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) قال: يمسك عن هذا، ويوسع على هذا, فيقول: لم يعطني مثل ما أعطى فلانا, ويبتلى بالوجع كذلك, فيقول: لم يجعلني ربي صحيحا مثل فلان في أشباه ذلك من البلاء, ليعلم من يصبر ممن يجزع.حدثنا ابن حميد, قال: ثنا سلمة, قال: ثني ابن إسحاق, قال: ثني محمد بن أبي محمد, فيما يرى الطبري, عن عكرمة, أو عن سعيد, عن ابن عباس, قال: وأنزل عليه في ذلك من قولهم: ( مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ ) ... الآية: ( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ) : أي جعلت بعضكم لبعض بلاء لتصبروا على ما تسمعون منهم, وترون من خلافهم, وتتبعوا الهدى بغير أن أعطيهم عليه الدنيا، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي، فلا يخالفون لفعلت, ولكني قد أردت أن أبتلي العباد بكم وأبتليكم بهم.وقوله: (وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) يقول: وربك يا محمد بصير بمن يجزع ومن يصبر على ما امتحن به من المحن.كما حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج (وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) إن ربك لبصير بمن يجزع، ومن يصبر.
﴿ وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا ﴾