وعباد الرحمن الصالحون يمشون على الأرض بسكينة متواضعين، وإذا خاطبهم الجهلة السفهاء بالأذى أجابوهم بالمعروف من القول، وخاطبوهم خطابًا يَسْلَمون فيه من الإثم، ومن مقابلة الجاهل بجهله.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«وعباد الرحمن» مبتدأ وما بعده صفات له إلى أولئك يجزون غير المعترض فيه «الذي يمشون على الأرض هوْنا» أي بسكينة وتواضع «وإذا خاطبهم الجاهلون» بما يكرهونه «قالوا سلاما» أي قولا يَسلمون فيه من الإثم.
﴿ تفسير السعدي ﴾
العبودية لله نوعان: عبودية لربوبيته فهذه يشترك فيها سائر الخلق مسلمهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، فكلهم عبيد لله مربوبون مدبرون إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا وعبودية لألوهيته وعبادته ورحمته وهي عبودية أنبيائه وأوليائه وهي المراد هنا ولهذا أضافها إلى اسمه " الرحمن " إشارة إلى أنهم إنما وصلوا إلى هذه الحال بسبب رحمته، فذكر أن صفاتهم أكمل الصفات ونعوتهم أفضل النعوت، فوصفهم بأنهم يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا أي: ساكنين متواضعين لله والخلق فهذا وصف لهم بالوقار والسكينة والتواضع لله ولعباده. وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ أي: خطاب جهل بدليل إضافة الفعل وإسناده لهذا الوصف، قَالُوا سَلَامًا أي: خاطبوهم خطابا يسلمون فيه من الإثم ويسلمون من مقابلة الجاهل بجهله. وهذا مدح لهم، بالحلم الكثير ومقابلة المسيء بالإحسان والعفو عن الجاهل ورزانة العقل الذي أوصلهم إلى هذه الحال
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله - عز وجل - : ) ( وعباد الرحمن ) أي : أفاضل العباد . وقيل : هذه الإضافة للتخصيص والتفضيل ، وإلا فالخلق كلهم عباد الله . ( الذين يمشون على الأرض هونا ) أي : بالسكينة والوقار متواضعين غير أشرين ولا مرحين ، ولا متكبرين . وقال الحسن : علماء وحكماء . وقال محمد بن الحنفية : أصحاب وقار وعفة لا يسفهون ، وإن سفه عليهم حلموا ، و " الهون " في اللغة : الرفق واللين . ( وإذا خاطبهم الجاهلون ) يعني السفهاء بما يكرهون ، ) ( قالوا سلاما ) قال مجاهد : سدادا من القول . وقال مقاتل بن حيان : قولا يسلمون فيه من الإثم . وقال الحسن : إن جهل عليهم جاهل حلموا ولم يجهلوا ، وليس المراد منه السلام المعروف . وروي عن الحسن : معناه سلموا عليهم ، دليله قوله - عز وجل - : وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم ( القصص - 55 ) . قال الكلبي وأبو العالية : هذا قبل أن يؤمر بالقتال ، ثم نسختها آية القتال . وروي عن الحسن البصري أنه كان إذا قرأ هذه الآية قال : هذا وصف نهارهم ، ثم قرأ ( والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما ) قال : هذا وصف ليلهم .
﴿ تفسير الوسيط ﴾
هؤلاء هم عباد الرحمن، وتلك هي صفاتهم التي ميزتهم عن سواهم.وقد افتتحت هذه الآيات بقوله- تعالى-: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً....وهذه الجملة الكريمة مبتدأ. والخبر قوله- تعالى-: أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا.... وما بينهما من الموصولات صفات لهم.وإضافتهم إلى الرحمن من باب التشريف والتكريم والتفضيل.و «هونا» مصدر بمعنى اللين والرفق.. وهو صفة لموصوف محذوف.أى: وعباد الرحمن الذين رضى الله عنهم وأرضاهم، من صفاتهم أنهم يمشون على الأرض مشيا لينا رقيقا، لا تكلف فيه ولا خيلاء ولا تصنع فيه ولا ضعف، وإنما مشيهم تكسوه القوة والجد، والوقار والسكينة.قال الإمام ابن كثير: أى: يمشون بسكينة ووقار.. كما قال- تعالى-: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا . وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى من التصانع، تصنعا ورياء، فقد كان سيد ولد آدم صلّى الله عليه وسلّم إذا مشى كأنما ينحط من صبب- أى: من موضع منحدر- وكأنما الأرض تطوى له، وعند ما رأى عمر- رضى الله عنه- شابا يمشى رويدا قال له: ما بالك؟ أأنت مريض؟ قال: لا فعلاه بالدرة، وأمره أن يسير بقوة..هذا هو شأنهم في مشيهم، أما شأنهم مع غيرهم، فقد وصفهم. سبحانه- بقوله:وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً.أى: إذا خاطبهم الجاهلون بسفاهة وسوء أدب، لم يقابلوهم بالمثل، بل يقابلوهم بالقول الطيب، كما قال- تعالى- في آية أخرى: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ .
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
هذه صفات عباد الله المؤمنين ( الذين يمشون على الأرض هونا ) أي : بسكينة ووقار من غير جبرية ولا استكبار ، كما قال : ( ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ) [ الإسراء : 37 ] . فأما هؤلاء فإنهم يمشون من غير استكبار ولا مرح ، ولا أشر ولا بطر ، وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى من التصانع تصنعا ورياء ، فقد كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينحط من صبب ، وكأنما الأرض تطوى له . وقد كره بعض السلف المشي بتضعف وتصنع ، حتى روي عن عمر أنه رأى شابا يمشي رويدا ، فقال : ما بالك؟ أأنت مريض؟ قال : لا يا أمير المؤمنين . فعلاه بالدرة ، وأمره أن يمشي بقوة . وإنما المراد بالهون هاهنا السكينة والوقار ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ، وأتوها وعليكم السكينة ، فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا " .وقال عبد الله بن المبارك ، عن معمر ، عن يحيى بن المختار ، عن الحسن البصري في قوله : ( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا ) قال : إن المؤمنين قوم ذلل ، ذلت منهم - والله - الأسماع والأبصار والجوارح ، حتى تحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض ، وإنهم لأصحاء ، ولكنهم دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم ، ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة ، فقالوا : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن . أما والله ما أحزنهم حزن الناس ، ولا تعاظم في نفوسهم شيء طلبوا به الجنة ، أبكاهم الخوف من النار ، وإنه من لم يتعز بعزاء الله تقطع نفسه على الدنيا حسرات ، ومن لم ير لله نعمة إلا في مطعم أو في مشرب ، فقد قل علمه وحضر عذابه .وقوله : ( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) أي : إذا سفه عليهم الجهال بالسيئ ، لم يقابلوهم عليه بمثله ، بل يعفون ويصفحون ، ولا يقولون إلا خيرا ، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما ، وكما قال تعالى : ( وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ) [ القصص : 55 ] .وقال الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا أبو بكر ، عن الأعمش ، عن أبي خالد الوالبي ، عن النعمان بن مقرن المزني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ وسب رجل رجلا عنده ، قال : فجعل الرجل المسبوب يقول : عليك السلام . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما ] إن ملكا بينكما يذب عنك ، كلما شتمك هذا قال له : بل أنت وأنت أحق به . وإذا قال له : عليك السلام ، قال : لا بل عليك ، وأنت أحق به . " إسناده حسن ، ولم يخرجوه .وقال مجاهد : ( قالوا سلاما ) يعني : قالوا : سدادا .وقال سعيد بن جبير : ردوا معروفا من القول .وقال الحسن البصري : ( قالوا [ سلاما ) ، قال : حلماء لا يجهلون ] ، وإن جهل عليهم حلموا . يصاحبون عباد الله نهارهم بما تسمعون ، ثم ذكر أن ليلهم خير ليل .
﴿ تفسير القرطبي ﴾
قوله تعالى : وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما .قوله تعالى : وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا لما ذكر جهالات المشركين وطعنهم في القرآن والنبوة ذكر عباده المؤمنين أيضا وذكر صفاتهم ، وأضافهم إلى عبوديته تشريفا لهم ، كما قال : سبحان الذي أسرى بعبده . وقد تقدم . فمن أطاع الله وعبده وشغل سمعه وبصره ولسانه وقلبه بما أمره فهو الذي يستحق اسم العبودية ، ومن كان بعكس هذا شمله قوله تعالى : أولئك كالأنعام بل هم أضل يعني في عدم الاعتبار ; كما تقدم في ( الأعراف ) . وكأنه قال : وعباد الرحمن هم الذين يمشون على الأرض ، فحذف هم ; كقولك : زيد الأمير ، أي زيد هو الأمير . ف " الذين " خبر مبتدأ محذوف ; قاله الأخفش . وقيل : الخبر قوله في آخر السورة : أولئك يجزون الغرفة بما صبروا وما بين المبتدأ والخبر أوصاف لهم وما تعلق بها ; قاله الزجاج . قال : ويجوز أن يكون الخبر : الذين يمشون على الأرض . و يمشون عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم ، فذكر من ذلك العظم ، لا سيما وفي ذلك الانتقال في الأرض ; وهو معاشرة الناس وخلطتهم .قوله تعالى : هونا الهون مصدر الهين وهو من السكينة والوقار . وفي التفسير : يمشون على الأرض حلماء متواضعين ، يمشون في اقتصاد . والقصد والتؤدة وحسن السمت من أخلاق النبوة . وقال صلى الله عليه وسلم : أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس في الإيضاع وروي في صفته صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا زال زال تقلعا ، ويخطو تكفؤا ، ويمشي هونا ، ذريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من صبب . التقلع : رفع الرجل بقوة ، والتكفؤ : الميل إلى سنن المشي وقصده . والهون الرفق والوقار . والذريع الواسع الخطا ; أي إن مشيه كان يرفع فيه رجله بسرعة ويمد خطوه ; خلاف مشية المختال ، ويقصد سمته ; وكل ذلك برفق وتثبت دون عجلة . كما قال : كأنما ينحط من صبب ، قاله القاضي عياض . وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسرع جبلة لا تكلفا .قال الزهري : سرعة المشي تذهب بهاء الوجه . قال ابن عطية : يريد الإسراع الحثيث لأنه يخل بالوقار ; والخير في التوسط . وقال زيد بن أسلم : كنت أسأل عن تفسير قوله تعالى : الذين يمشون على الأرض هونا فما وجدت من ذلك شفاء ، فرأيت في المنام من جاءني فقال لي : هم الذين لا يريدون أن يفسدوا في الأرض . قال القشيري ; وقيل لا يمشون لإفساد ومعصية ، بل في طاعة الله والأمور المباحة من غير هوك . وقد قال الله تعالى : ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور . وقال ابن عباس : بالطاعة والمعروف والتواضع . الحسن : حلماء إن جهل عليهم لم يجهلوا . وقيل : لا يتكبرون على الناس .قلت : وهذه كلها معان متقاربة ، ويجمعها العلم بالله والخوف منه ، والمعرفة بأحكامه والخشية من عذابه وعقابه ; جعلنا الله منهم بفضله ومنه . وذهبت فرقة إلى أن هونا مرتبط بقوله : يمشون على الأرض ، أن المشي هو هون . قال ابن عطية : ويشبه أن يتأول هذا على أن تكون أخلاق ذلك الماشي هونا مناسبة لمشيه ، فيرجع القول إلى نحو ما بيناه . وأما أن يكون المراد صفة المشي وحده فباطل ; لأنه رب ماش هونا رويدا وهو ذئب أطلس . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكفأ في مشيه كأنما ينحط في صبب . وهو عليه الصلاة والسلام الصدر في هذه الأمة . وقوله عليه الصلاة والسلام : من مشى منكم في طمع فليمش رويدا إنما أراد في عقد نفسه ، ولم يرد المشي وحده . ألا ترى أن المبطلين المتحلين بالدين تمسكوا بصورة المشي فقط ; حتى قال فيهم الشاعر ذما لهم :كلهم يمشي رويدا كلهم يطلب صيداقلت : وفي عكسه أنشد ابن العربي لنفسه :تواضعت في العلياء والأصل كابر وحزت قصاب السبق بالهون في الأمرسكون فلا خبث السريرة أصله وجل سكون الناس من عظم الكبرقوله تعالى : وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما قال النحاس : ليس سلاما من التسليم إنما هو من التسلم ; تقول العرب : سلاما ، أي تسلما منك ، أي براءة منك . منصوب على أحد أمرين : يجوز أن يكون منصوبا ب " قالوا " ويجوز أن يكون مصدرا ; وهذا قول سيبويه . قال ابن عطية : والذي أقوله : أن " قالوا " هو العامل في سلاما لأن المعنى قالوا هذا اللفظ . وقال مجاهد : معنى سلاما سدادا . أي يقول للجاهل كلاما يدفعه به برفق ولين . ف " قالوا " على هذا التأويل عامل في قوله : سلاما على طريقة النحويين ; وذلك أنه بمعنى " قولا " . وقالت فرقة : ينبغي للمخاطب أن يقول للجاهل سلاما ; بهذا اللفظ . أي سلمنا سلاما أو تسليما ، ونحو هذا ; فيكون العامل فيه فعلا من لفظه على طريقة النحويين . مسألة : هذه الآية كانت قبل آية السيف ، نسخ منها ما يخص الكفرة وبقي أدبها في المسلمين إلى يوم القيامة . وذكر سيبويه النسخ في هذه الآية في كتابه ، وما تكلم فيه على نسخ سواه ; رجح به أن المراد السلامة لا التسليم ; لأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالسلام على الكفرة . والآية مكية فنسختها آية السيف . قال النحاس : ولا نعلم لسيبويه كلاما في معنى الناسخ والمنسوخ إلا في هذه الآية . قال سيبويه : لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين لكنه على معنى قوله : تسلما منكم ، ولا خير ولا شر بيننا وبينكم . المبرد : كان ينبغي أن يقال : لم يؤمر المسلمون يومئذ بحربهم ثم أمروا بحربهم . محمد بن يزيد . أخطأ سيبويه في هذا وأساء العبارة . ابن العربي : لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين ولا نهوا عن ذلك ، بل أمروا بالصفح والهجر الجميل ، وقد كان عليه الصلاة والسلام يقف على أنديتهم ويحييهم ويدانيهم ولا يداهنهم . وقد اتفق الناس على أن السفيه من المؤمنين إذا جفاك يجوز أن تقول له سلام عليك .قلت : هذا القول أشبه بدلائل السنة . وقد بينا في سورة ( مريم ) اختلاف العلماء في جواز التسليم على الكفار ، فلا حاجة إلى دعوى النسخ ; والله أعلم . وقد ذكر النضر بن شميل قال حدثني الخليل قال : أتيت أبا ربيعة الأعرابي وكان من أعلم من رأيت ، فإذا هو على سطح ، فلما سلمنا رد علينا السلام وقال لنا : استووا . وبقينا متحيرين ولم ندر ما قال . فقال لنا أعرابي إلى جنبه : أمركم أن ترتفعوا . قال الخليل : هو من قول الله عز وجل : ثم استوى إلى السماء وهي دخان فصعدنا إليه فقال : هل لكم في خبز فطير ، ولبن هجير ، وماء نمير ؟ فقلنا : الساعة فارقناه . فقال : سلاما . فلم ندر ما قال . قال : فقال الأعرابي : إنه سألكم متاركة لا خير فيها ولا شر . فقال الخليل : هو من قول الله عز وجل : وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما . قال ابن عطية : ورأيت في بعض التواريخ أن إبراهيم بن المهدي - وكان من المائلين على علي بن أبي طالب رضي الله عنه - قال يوما بحضرة المأمون وعنده جماعة : كنت أرى علي بن أبي طالب في النوم فكنت أقول له من أنت ؟ فكان يقول : علي بن أبي طالب . فكنت أجيء معه إلى قنطرة فيذهب فيتقدمني في عبورها . فكنت أقول : إنما تدعي هذا الأمر بامرأة ونحن أحق به منك . فما رأيت له في الجواب بلاغة كما يذكر عنه . قال المأمون : وبماذا جاوبك ؟ قال : فكان يقول لي : سلاما . قال الراوي : فكأن إبراهيم بن المهدي لا يحفظ الآية أو ذهبت عنه في ذلك الوقت . فنبه المأمون على الآية من حضره وقال : هو والله يا عم علي بن أبي طالب ، وقد جاوبك بأبلغ جواب ، فخزي إبراهيم واستحيا . وكانت رؤيا لا محالة صحيحة .
﴿ تفسير الطبري ﴾
يقول تعالى ذكره: ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) بالحلم والسكينة والوقار غير مستكبرين, ولا متجبرين, ولا ساعين فيها بالفساد ومعاصي الله.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل, غير أنهم اختلفوا, فقال بعضهم: عنى بقوله: ( يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) أنهم يمشون عليها بالسكينة والوقار.* ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال: بالوقار والسكينة.قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا محمد بن أبي الوضاح, عن عبد الكريم, عن مجاهد: ( يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال: بالحلم والوقار.حدثني محمد بن عمرو, قال: ثنا أبو عاصم, قال ثنا عيسى; وحدثني الحارث; قال: ثنا الحسن, قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نَجيح, عن مجاهد, قوله: ( يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال: بالوقار والسكينة.حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثني حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد, مثله.حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, عن الثوري, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) بالوقار والسكينة.حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي, قال: ثنا شريك, عن سالم, عن سعيد وعبد الرحمن ( الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قالا بالسكينة والوقار.حدثنا أبو كريب, قال: ثنا ابن يمان, عن شريك, عن جابر, عن عمار, عن عكرمة, في قوله: ( يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال: بالوقار والسكينة.قال: ثنا ابن يمان, عن سفيان, عن منصور, عن مجاهد, مثله.حدثنا ابن حميد, قال: ثنا حكام, عن أيوب, عن عمرو الملائي ( يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال: بالوقار والسكينة.وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنهم يمشون عليها بالطاعة والتواضع.* ذكر من قال ذلك:حدثني علي, قال: ثنا عبد الله, قال: ثني معاوية, عن عليّ, عن ابن عباس, قوله: ( الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) بالطاعة والعفاف والتواضع.حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال: يمشون على الأرض بالطاعة.حدثني أحمد بن عبد الرحمن, قال: ثني عمي عبد الله بن وهب, قال: كتب إليّ إبراهيم بن سويد, قال: سمعت زيد بن أسلم يقول: التمست تفسير هذه الآية ( الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) فلم أجدها عند أحد, فأُتيت في النوم فقيل لي: هم الذين لا يريدون يفسدون في الأرض.حدثنا أبو كريب, قال: ثنا ابن يمان, عن أسامة بن زيد بن أسلم, عن أبيه, قال: لا يفسدون في الأرض.حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال: لا يتكبرون على الناس, ولا يتجبرون, ولا يفسدون. وقرأ قول الله تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَوقال آخرون: بل معنى ذلك: أنهم يمشون عليها بالحلم لا يجهلون على من جهل عليهم.* ذكر من قال ذلك:حدثنا أبو كريب, قال: ثنا ابن يمان, عن أبي الأشهب, عن الحسن في ( يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال: حلماء, وإن جُهِلَ عليهم لم يجهلوا.حدثنا ابن حميد قال: ثنا يحيى بن واضح, قال: ثنا الحسين, عن يزيد, عن عكرمة ( يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال: حلماء.حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: أخبرنا معمر, عن الحسن, في قوله: ( يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا ) قال: علماء حلماء لا يجهلون.وقوله: ( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ) يقول: وإذا خاطبهم الجاهلون بالله بما يكرهونه من القول, أجابوهم بالمعروف من القول, والسداد من الخطاب.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا أبو الأشهب, عن الحسن ( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ) ... الآية, قال: حلماء, وإن جُهل عليهم لم يجهلوا.حدثنا ابن حميد, قال: ثنا ابن المبارك, عن معمر, عن يحيى بن المختار, عن الحسن, في قوله ( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ) قال: إن المؤمنين قوم ذُلُلٌ, ذلّت منهم والله الأسماع والأبصار والجوارح, حتى يحسبهم الجاهل مرضى, وإنهم لأصحاء القلوب, ولكن دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم, ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة, فقالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ والله ما حزنهم حزن الدنيا, ولا تعاظم في أنفسهم ما طلبوا به الجنة, أبكاهم الخوف من النار, وإنه من لم يتعز بعزاء الله تَقَطَّعَ نفسه على الدنيا حسرات, ومن لم ير لله عليه نعمة إلا في مطعم ومشرب, فقد قلّ علمه وحضر عذابه.حدثنا ابن بشار قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ) قال: سدادا.حدثنا ابن بشار, قال: ثنا عبد الرحمن, قال: ثنا محمد بن أبي الوضاح, عن عبد الكريم, عن مجاهد ( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ) قال: سَدَادا من القول.حدثنا الحسن, قال: أخبرنا عبد الرزاق, عن الثوريّ, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.حدثنا القاسم, قال: ثنا الحسين, قال: ثنا حجاج, عن ابن جُرَيج, عن مجاهد ( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ) حلماء.قال: ثنا الحسين, قال: ثنا يحيى بن يمان, عن أبي الأشهب, عن الحسن, قال: حلماء لا يجهلون, وإن جُهِل عليهم حلموا ولم يسفهوا، هذا نهارهم فكيف ليلهم - خير ليل - صفوا أقدامهم, وأجْرَوا دموعهم على خدودهم يطلبون إلى الله جلّ ثناؤه في فكاك رقابهم.قال: ثنا الحسين, قال: ثنا هشيم, قال: أخبرنا عبادة, عن الحسن, قال: حلماء لا يجهلون وإن جهل عليهم حلموا.
﴿ وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ﴾