أقسم الله تعالى بنفسه الكريمة أن هؤلاء لا يؤمنون حقيقة حتى يجعلوك حكمًا فيما وقع بينهم من نزاع في حياتك، ويتحاكموا إلى سنتك بعد مماتك، ثم لا يجدوا في أنفسهم ضيقًا مما انتهى إليه حكمك، وينقادوا مع ذلك انقيادًا تاماً، فالحكم بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة في كل شأن من شؤون الحياة من صميم الإيمان مع الرضا والتسليم.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«فلا وربِّك» لا زائدة «لا يؤمنون حتى يحكِّموك فيما شجر» اختلط «بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا» ضيقا أو شكٌا «مما قضيت» به «ويسلِّموا» ينقادوا لحكمك «تسليما» من غير معارضة.
﴿ تفسير السعدي ﴾
ثم أقسم تعالى بنفسه الكريمة أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله فيما شجر بينهم، أي: في كل شيء يحصل فيه اختلاف، بخلاف مسائل الإجماع، فإنها لا تكون إلا مستندة للكتاب والسنة، ثم لا يكفي هذا التحكيم حتى ينتفي الحرج من قلوبهم والضيق، وكونهم يحكمونه على وجه الإغماض، ثم لا يكفي ذلك حتى يسلموا لحكمه تسليمًا بانشراح صدر، وطمأنينة نفس، وانقياد بالظاهر والباطن. فالتحكيم في مقام الإسلام، وانتفاء الحرج في مقام الإيمان، والتسليم في مقام الإحسان. فمَن استكمل هذه المراتب وكملها، فقد استكمل مراتب الدين كلها. فمَن ترك هذا التحكيم المذكور غير ملتزم له فهو كافر، ومَن تركه، مع التزامه فله حكم أمثاله من العاصين.
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله تعالى : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك ) الآية .أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا أبو اليمان ، أنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني عروة بن الزبير : أن الزبير رضي الله عنه كان يحدث أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج من الحرة كانا يسقيان به . كلاهما ، فقال رسول الله للزبير : اسق يا زبير ، ثم أرسل إلى جارك ، فغضب الأنصاري ، ثم قال : يا رسول الله أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال للزبير : اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر ، فاستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ للزبير حقه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد به سعة له وللأنصاري ، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم استوعى للزبير حقه في صريح الحكم .قال عروة : قال الزبير : والله ما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ) الآية .وروي أن الأنصاري الذي خاصم الزبير كان اسمه حاطب بن أبي بلتعة فلما خرجا مر على المقداد فقال : لمن كان القضاء ، فقال الأنصاري : قضى لابن عمته ولوى شدقه ففطن له يهودي كان مع المقداد ، فقال : قاتل الله هؤلاء يشهدون أنه رسول الله ثم يتهمونه في قضاء يقضي بينهم ، وايم الله لقد أذنبنا ذنبا مرة في حياة موسى عليه السلام فدعا موسى إلى التوبة منه ، فقال : اقتلوا أنفسكم ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفا في طاعة ربنا حتى رضي عنا ، فقال ثابت بن قيس بن شماس : أما والله إن الله ليعلم مني الصدق ولو أمرني محمد أن أقتل نفسي لفعلت ، فأنزل الله في شأن حاطب بن أبي بلتعة : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك ) .وقال مجاهد والشعبي : نزلت في بشر المنافق واليهودي اللذين اختصما إلى عمر رضي الله عنه .قوله تعالى : ( فلا ) أي : ليس الأمر كما يزعمون أنهم مؤمنون ثم لا يرضون بحكمك ، ثم استأنف القسم ( وربك لا يؤمنون ) ويجوز أن يكون ( لا ) في قوله ( فلا ) صلة ، كما في قوله ( فلا أقسم ) حتى يحكموك : أي يجعلوك حكما ، ( فيما شجر بينهم ) أي : اختلف واختلط من أمورهم والتبس عليهم حكمه ، ومنه الشجر لالتفاف أغصانه بعضها ببعض ، ( ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا ) قال مجاهد : شكا ، وقال غيره : ضيقا ، ( مما قضيت ) قال الضحاك : إثما ، أي : يأثمون بإنكارهم ما قضيت ، ( ويسلموا تسليما ) أي : وينقادوا لأمرك انقيادا .
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ثم بين- سبحانه- أن كل من يدعى الإيمان لا يكون إيمانه صادقا إلا إذا تقبل حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إذعان واقتناع فقال: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً.والفاء في قوله فَلا للإفصاح عن شرط مقدر.ولا يرى الزمخشري أنها زائدة لتقوية الكلام وتأكيد معنى القسم، فهي كقوله- تعالى-: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ .ويرى ابن جرير أنها ليست زائدة، وإنما هي رد على ما تقدم ذكره من تحاكمهم إلى الطاغوت وتركهم حكم شريعة الإسلام فقد قال:«يعنى- جل ثناؤه- بقوله فلا: أى فليس الأمر كما يزعمون أنهم يؤمنون بما أنزل إليك وهم يتحاكمون إلى الطاغوت، ويصدون عنك إذا دعوا إليك يا محمد. ثم استأنف القسم- جل ذكره- فقال: وربك يا محمد لا يؤمنون أى: لا يصدقون بي وبك حتى يحكموك فيما شجر بينهم» .وقوله فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ أى فيما اختلف بينهم من الأمور والتبس.يقال: شجر بينهم الأمر يشجر شجرا وشجورا إذا تنازعوا فيه. وأصله التداخل والاختلاط. ومنه شجر الكلام، إذا دخل بعضه في بعض واختلط. ومنه الشجر: لتداخل أغصانه.وقيل للمنازعة تشاجر، لأن المتنازعين تختلف أقوالهم، وتتعارض دعاويهم، ويختلط بعضهم ببعض.وقوله حَرَجاً أى ضيقا وشكا، وأصل الحرج مجتمع الشيء، ويقال للشجر الملتف الذي لا يكاد يوصل إليه حرج. ثم أطلق على ضيق الصدر لكراهته لشيء معين.والمعنى: إذا ثبت ما أخبرناك به يا محمد قبل ذلك، فإن هؤلاء المنافقين وحق ربك «لا يؤمنون» إيمانا حقا يقبله الله- تعالى- حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ أى: حتى يجعلوك حاكما بينهم، ويلجئوا إليك فيما اختلفوا فيه من أمور، والتبس عليهم منها. ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ بعد ذلك حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ أى ضيقا وشكا في قضائك بينهم وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً أى: ويخضعوا لحكمك خضوعا تاما لا إباء معه ولا ارتياب.وفي إضافة الاسم الجليل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قوله- سبحانه- وَرَبِّكَ تكريم للنبي صلى الله عليه وسلم وتشريف له، وتنويه بمكانته.وقوله لا يُؤْمِنُونَ هو جواب القسم.وقوله ثُمَّ لا يَجِدُوا معطوف على مقدر ينساق إليه الكلام. أى: حتى يحكموك فيما شجر بينهم فتحكم بينهم ثم لا يجدوا.وقوله تَسْلِيماً تأكيد للفعل. بمنزلة تكريره. أى تسليما تاما بظاهرهم وباطنهم من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة فقد روى الحافظ أبو نعيم والطبراني عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» .هذا، وقد روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما رواه البخاري عن الزهري عن عروة قال: خاصم الزبير رجلا من الأنصار في شراج الحرة- أى في مسيل مياه-.فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك. فقال الأنصارى: يا رسول الله!! أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: اسق يا زبير. ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر- والجدر هو ما يدار بالنخل من تراب كالجدار-. ثم أرسل الماء إلى جارك.قال الزبير: فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ .وهذا السبب الخاص في نزول الآية الكريمة لا يمنع عمومها في وجوب التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وإلى الشريعة التي أتى بها بعد وفاته، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما يرى جمهور العلماء.ويبدو أن ما ذكرناه سابقا من تحاكم بعض المنافقين إلى غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء في البخاري من تخاصم الزبير مع الرجل الأنصارى يبدو أن هذه الحوادث قد حدثت في زمن متقارب فنزلت الآيات لبيان وجوب التحاكم إلى شريعه الله دون سواها.والمتأمل في الآية الكريمة يراها قد بينت أن المؤمن لا يكون إيمانه تاما إلا إذا توفرت فيه صفات ثلاث:أولها: أن يتحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وإلى شريعته بعد وفاته.وثانيها: أن يتقبل حكم الشريعة الإسلامية التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم برضا وطيب خاطر، وأن يوقن إيقانا تاما بأن ما يقضى به هو الحق والعدل. قال- تعالى-: ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وثالثها: أن يذعن لأحكام شريعة الله إذعانا تاما في مظهره وحسه. قال- تعالى- وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً. أى يخضعوا خضوعا تاما.فقوله- تعالى- ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ يمثل الانقياد الباطني والنفسي.وقوله- تعالى- وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً يمثل الانقياد الظاهري والحسى.وهكذا نرى الآية الكريمة تحذر المؤمنين من التحاكم إلى غير شريعة الله بأسلوب يبعث في النفوس الوجل والخشية، ويحملهم على الإذعان لأحكام الله- تعالى-.
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
وقوله : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ) يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة : أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور ، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنا وظاهرا ; ولهذا قال : ( ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) أي : إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجا مما حكمت به ، وينقادون له في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليما كليا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة ، كما ورد في الحديث : " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " .وقال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله حدثنا محمد بن جعفر ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عروة قال : خاصم الزبير رجلا في شريج من الحرة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك " فقال الأنصاري : يا رسول الله ، أن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : " اسق يا زبير ، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ، ثم أرسل الماء إلى جارك " واستوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم ، حين أحفظه الأنصاري ، وكان أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة . قال الزبير : فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ) الآية .وهكذا رواه البخاري هاهنا أعني في كتاب : " التفسير " من صحيحه من حديث معمر : وفي كتاب : " الشرب " من حديث ابن جريج ومعمر أيضا ، وفي كتاب : " الصلح " من حديث شعيب بن أبي حمزة ، ثلاثتهم عن الزهري عن عروة ، فذكره وصورته صورة الإرسال ، وهو متصل في المعنى .وقد رواه الإمام أحمد من هذا الوجه فصرح بالإرسال فقال : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني عروة بن الزبير : أن الزبير كان يحدث : أنه كان يخاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة ، كانا يسقيان بها كلاهما ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للزبير : " اسق ثم أرسل إلى جارك " فغضب الأنصاري وقال : يا رسول الله ، أن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : " اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر " فاستوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار علىالزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري ، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم استوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم ، قال عروة : فقال الزبير : والله ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما )هكذا رواه الإمام أحمد وهو منقطع بين عروة وبين أبيه الزبير ; فإنه لم يسمع منه ، والذي يقطع به أنه سمعه من أخيه عبد الله ، فإن أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم رواه كذلك في تفسيره فقال :حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، حدثنا الليث ويونس ، عن ابن شهاب ، أن عروة بن الزبير حدثه أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام : أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج في الحرة ، كانا يسقيان به كلاهما النخل ، فقال الأنصاري : سرح الماء يمر . فأبى عليه الزبير ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك " فغضب الأنصاري وقال : يا رسول الله ، أن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : " اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر " واستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير حقه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه السعة له وللأنصاري ، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم استوعى للزبير حقه في صريح الحكم فقال الزبير : ما أحسب هذه الآية إلا في ذلك : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما )وهكذا رواه النسائي من حديث ابن وهب ، به ورواه أحمد والجماعة كلهم من حديث الليث ، به وجعله أصحاب الأطراف في مسند عبد الله بن الزبير ، وكذا ساقه الإمام أحمد في مسند عبد الله بن الزبير ، والله أعلم . والعجب كل العجب من الحاكم أبي عبد الله النيسابوري ، فإنه روى هذا الحديث من طريق ابن أخي ابن شهاب ، عن عمه ، عن عروة ، عن عبد الله بن الزبير ، عن الزبير فذكره ، ثم قال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه . فإني لا أعلم أحدا قام بهذا الإسناد عن الزهري يذكر عبد الله بن الزبير ، غير ابن أخيه ، وهو عنه ضعيف .وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن علي أبو دحيم ، حدثنا أحمد بن حازم ، حدثنا الفضل بن دكين ، حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن سلمة - رجل من آل أبي سلمة - قال : خاصم الزبير رجلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للزبير ، فقال الرجل : إنما قضى له لأنه ابن عمته . فنزلت : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ) الآية .وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن عثمان ، حدثنا أبو حيوة ، حدثنا سعيد بن عبد العزيز ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب في قوله : ( فلا وربك لا يؤمنون [ حتى يحكموك ] ) [ الآية ] قال : نزلت في الزبير بن العوام ، وحاطب بن أبي بلتعة . اختصما في ماء ، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسقي الأعلى ثم الأسفل . هذا مرسل ولكن فيه فائدة تسمية الأنصاري .ذكر سبب آخر غريب جدا :قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عبد الله بن لهيعة ، عن أبي الأسود قال : اختصم رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ، فقال الذي قضي عليه : ردنا إلى عمر بن الخطاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انطلقا إليه " فلما أتيا إليه قال الرجل : يا ابن الخطاب ، قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا ، فقال : ردنا إلى عمر . فردنا إليك . فقال : أكذاك ؟ فقال : نعم فقال عمر : مكانكما حتى أخرج إليكما فأقضي بينكما . فخرج إليهما مشتملا على سيفه ، فضرب الذي قال ردنا إلى عمر فقتله ، وأدبر الآخر فارا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله قتل عمر والله صاحبي ، ولولا أني أعجزته لقتلني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما كنت أظن أن يجترئ عمر على قتل مؤمن " فأنزل الله : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك ) الآية ، فهدر دم ذلك الرجل ، وبرئ عمر من قتله ، فكره الله أن يسن ذلك بعد ، فقال : ( ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا ) [ النساء : 66 ] .وكذا رواه ابن مردويه من طريق ابن لهيعة ، عن أبي الأسود به .وهو أثر غريب ، وهو مرسل ، وابن لهيعة ضعيف والله أعلم .طريق أخرى : قال الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن دحيم في تفسيره : حدثنا شعيب بن شعيب حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا عتبة بن ضمرة ، حدثني أبي : أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للمحق على المبطل ، فقال المقضي عليه : لا أرضى . فقال صاحبه : فما تريد ؟ قال : أن نذهب إلى أبي بكر الصديق ، فذهبا إليه ، فقال الذي قضي له : قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى لي فقال أبو بكر : فأنتما على ما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم فأبى صاحبه أن يرضى ، قال : نأتي عمر بن الخطاب ، فأتياه ، فقال المقضي له : قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقضى لي عليه ، فأبى أن يرضى ، [ ثم أتينا أبا بكر ، فقال : أنتما على ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأبى أن يرضى ] فسأله عمر ، فقال : كذلك ، فدخل عمر منزله وخرج والسيف في يده قد سله ، فضرب به رأس الذي أبى أن يرضى ، فقتله ، فأنزل الله : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ) [ إلى آخر ] الآية .
﴿ تفسير القرطبي ﴾
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليمافيه خمس مسائل :الأولى : قال مجاهد وغيره : المراد بهذه الآية من تقدم ذكره ممن أراد التحاكم إلى الطاغوت وفيهم نزلت . وقال الطبري : قوله فلا رد على ما تقدم ذكره ؛ تقديره فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ، ثم استأنف القسم بقوله : وربك لا يؤمنون . وقال غيره : إنما قدم لا على القسم اهتماما بالنفي وإظهارا لقوته ، ثم كرره بعد القسم تأكيدا للتهمم بالنفي ، وكان يصح إسقاط لا الثانية ويبقى أكثر الاهتمام بتقديم الأولى ، وكان يصح إسقاط الأولى ويبقى معنى النفي ويذهب معنى الاهتمام . و " شجر " معناه اختلف واختلط ؛ ومنه الشجر لاختلاف أغصانه . ويقال لعصي الهودج : شجار ؛ لتداخل بعضها في بعض . قال الشاعر :نفسي فداؤك والرماح شواجر والقوم ضنك للقاء قيام وقال طرفة :وهم الحكام أرباب الهدى وسعاة الناس في الأمر الشجر وقالت طائفة : نزلت في الزبير مع الأنصاري ، وكانت الخصومة في سقي بستان ؛ فقال عليه السلام للزبير : اسق أرضك ثم أرسل الماء إلى أرض جارك . فقال الخصم : أراك تحابي ابن عمتك ؛ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للزبير : اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر ونزل : فلا وربك لا يؤمنون . الحديث ثابت صحيح رواه البخاري عن علي بن عبد الله عن محمد بن جعفر عن معمر ، ورواه مسلم عن قتيبة كلاهما عن الزهري . واختلف أهل هذا القول في الرجل الأنصاري ؛ فقال بعضهم : هو رجل من الأنصار من أهل بدر . وقال مكي والنحاس : هو حاطب بن أبي بلتعة . وقال الثعلبي والواحدي والمهدوي : هو حاطب . وقيل : ثعلبة بن حاطب . وقيل غيره : والصحيح القول الأول ؛ لأنه غير معين ولا مسمى ؛ وكذا في البخاري ومسلم أنه رجل من الأنصار . واختار الطبري أن يكون نزول الآية في المنافق واليهودي . كما قال مجاهد ؛ ثم تتناول بعمومها قصة الزبير . قال ابن العربي : وهو الصحيح ؛ فكل من اتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحكم فهو كافر ، لكن الأنصاري زل زلة فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم وأقال عثرته لعلمه بصحة يقينه ، وأنها كانت فلتة وليست لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم . وكل من لم يرض بحكم الحاكم وطعن فيه ورده فهي ردة يستتاب . أما إن طعن في الحاكم نفسه لا في الحكم فله تعزيره وله أن يصفح عنه وسيأتي بيان هذا في آخر سورة " الأعراف " إن شاء الله تعالى .الثانية : وإذا كان سبب نزول هذه الآية ما ذكرناه من الحديث ففقهها أنه عليه السلام سلك مع الزبير وخصمه مسلك الصلح فقال : اسق يا زبير لقربه من الماء ثم أرسل الماء إلى جارك . أي تساهل في حقك ولا تستوفه وعجل في إرسال الماء إلى جارك . فحضه على المسامحة والتيسير ، فلما سمع الأنصاري هذا لم يرض بذلك وغضب ؛ لأنه كان يريد ألا يمسك الماء أصلا ، وعند ذلك نطق بالكلمة الجائرة المهلكة الفاقرة فقال : آن كان ابن عمتك ؟ بمد همزة " أن " المفتوحة على جهة الإنكار ؛ أي أتحكم له علي لأجل أنه قرابتك ؟ . فعند ذلك تلون وجه النبي صلى الله عليه وسلم غضبا عليه ، وحكم للزبير باستيفاء حقه من غير مسامحة له . وعليه لا يقال : كيف حكم في حال غضبه وقد قال : ( لا يقضي القاضي وهو غضبان ) ؟ فإنا نقول : لأنه معصوم من الخطأ في التبليغ والأحكام ، بدليل العقل الدال على صدقه فيما يبلغه عن الله تعالى فليس مثل غيره من الحكام . وفي هذا الحديث إرشاد الحاكم إلى الإصلاح بين الخصوم وإن ظهر الحق . ومنعه مالك ، واختلف فيه قول الشافعي . وهذا الحديث حجة واضحة على الجواز ؛ فإن اصطلحوا وإلا استوفى لذي الحق حقه وثبت الحكم .الثالثة : واختلف أصحاب مالك في صفة إرسال الماء الأعلى إلى الأسفل ؛ فقال ابن حبيب : يدخل صاحب الأعلى جميع الماء في حائطه ويسقي به ، حتى إذا بلغ الماء من قاعة الحائط إلى الكعبين من القائم فيه أغلق مدخل الماء ، وصرف ما زاد من الماء على مقدار الكعبين إلى من يليه ، فيصنع به مثل ذلك حتى يبلغ السيل إلى أقصى الحوائط . وهكذا فسره لي مطرف وابن الماجشون . وقاله ابن وهب . وقال ابن القاسم : إذا انتهى الماء في الحائط إلى مقدار الكعبين أرسله كله إلى من تحته ولا يحبس منه شيئا في حائطه . قال ابن حبيب : وقول مطرف وابن الماجشون أحب إلي وهم أعلم بذلك ؛ لأن المدينة دارهما وبها كانت القضية وفيها جرى العمل .الرابعة : روى مالك عن عبد الله بن أبي بكر أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في سيل مهزور ومذينب : يمسك حتى الكعبين ثم يرسل الأعلى على الأسفل . قال أبو عمر : " لا أعلم هذا الحديث يتصل عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه من الوجوه ، وأرفع أسانيده ما ذكره محمد بن إسحاق عن أبي مالك بن ثعلبة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه أهل مهزور فقضى أن الماء إذا بلغ الكعبين لم يحبس الأعلى . وذكر عبد الرزاق عن أبي حازم القرطبي عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في سيل مهزور أن يحبس على كل حائط حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل . وغيره من السيول كذلك . وسئل أبو بكر البزار عن حديث هذا الباب فقال : لست أحفظ فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا يثبت . قال أبو عمر : في هذا المعنى - وإن لم يكن بهذا اللفظ حديث ثابت مجتمع على صحته . رواه ابن وهب عن الليث بن سعد ويونس بن يزيد جميعا عن ابن شهاب أن عروة بن الزبير حدثه أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة كانا يسقيان بها كلاهما النخل ؛ فقال الأنصاري : سرح الماء ؛ فأبى عليه ، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم " وذكر الحديث . قال أبو عمر : وقوله في الحديث : ( يرسل ) وفي الحديث الآخر إذا بلغ الماء الكعبين لم يحبس الأعلى يشهد لقول ابن القاسم . ومن جهة النظر أن الأعلى لو لم يرسل إلا ما زاد على الكعبين لا يقطع ذلك الماء في أقل مدة ، ولم ينته حيث ينتهي إذا أرسل الجميع ، وفي إرسال الجميع بعد أخذ الأعلى منه ما بلغ الكعبين أعم فائدة وأكثر نفعا فيما قد جعل الناس فيه شركاء ؛ فقول ابن القاسم أولى على كل حال . هذا إذا لم يكن أصله ملكا للأسفل مختصا به ، فإن ما استحق بعمل أو بملك صحيح أو استحقاق قديم وثبوت ملك فكل على حقه على حسب ما كان من ذلك بيده وعلى أصل مسألته . وبالله التوفيق .الخامسة : قوله تعالى : ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت أي ضيقا وشكا ؛ ومنه قيل للشجر الملتف : حرج وحرجة ، وجمعها حراج . وقال الضحاك : أي إثما بإنكارهم ما قضيت . ويسلموا تسليما أي ينقادوا لأمرك في القضاء . وقال الزجاج : تسليما مصدر مؤكد ؛ فإذا قلت : ضربت ضربا فكأنك قلت لا أشك فيه ؛ وكذلك ويسلموا تسليما أي ويسلموا لحكمك تسليما لا يدخلون على أنفسهم شكا .
﴿ تفسير الطبري ﴾
القول في تأويل قوله : فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: " فلا " فليس الأمر كما يزعمون: أنهم يؤمنون بما أنزل إليك، وهم يتحاكمون إلى الطاغوت، ويصدّون عنك إذا دعوا إليك يا محمد = واستأنف القسم جل ذكره فقال: " وربك "، يا محمد =" لا يؤمنون "، أي: لا يصدقون بي وبك وبما أنزل إليك =" حتى يحكموك فيما شجر بينهم "، يقول: حتى يجعلوك حكمًا بينهم فيما اختلط بينهم من أمورهم، فالتبس عليهم حكمه. يقال: " شجَر يشجُر شُجورًا وشَجْرًا "، و " تشاجر القوم "، إذا اختلفوا في الكلام والأمر،" مشاجرة وشِجارًا ".* * *=" ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت "، يقول: لا يجدوا في أنفسهم ضيقًا مما قضيت. وإنما معناه: ثم لا تحرَج أنفسهم مما قضيت = أي: لا تأثم بإنكارها ما قضيتَ، وشكّها في طاعتك، وأن الذي قضيت به بينهم حقٌّ لا يجوز لهم خلافه، كما:-9908 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " حرجًا مما قضيت "، قال: شكًّا.9909 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله: " حرجًا مما قضيت "، يقول: شكًّا.9910 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.9911 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: " ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت "، قال: إثمًا =" ويسلموا تسليما "، يقول: ويسلّموا لقضائك وحكمك، إذعانًا منهم بالطاعة، وإقرارًا لك بالنبوة تسليمًا.* * *واختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية، وفيمن نزلت؟فقال بعضهم: نزلت في الزبير بن العَوَّام وخصم له من الأنصار، اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور.ذكر الرواية بذلك:9912 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس والليث بن سعد، عن ابن شهاب، أن عروة بن الزبير حدَّثه: أن عبد الله بن الزبير حدثه، عن الزبير بن العوام: أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شِرَاج من الحرّة كانا يسقيان به كَلأهما النخل، (21) فقال الأنصاري: سَرِّح الماء يمرّ! (22) فأبى عليه، فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك. فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله، أنْ كان ابن عمتك؟ (23) فتلوّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدْر، (24) ثم أرسل الماء إلى جارك. واستوعَى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير حقه = قال أبو جعفر: والصواب: " استوعب " (25) = وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه الشفقة له وللأنصاري. فلما أحفظَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الأنصاريُّ، (26) استوعب للزبير حقه في صريح الحكم = قال فقال الزبير: ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم "، الآية. (27)9913 - حدثني يعقوب قال، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري عن عروة، قال: خاصم الزبير رجل من الأنصار في شَرْج من شِراج الحَرَّة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا زبير، أَشْرِب، ثم خلِّ سبيل الماء. فقال الذي من الأنصار من بني أمية: (28) اعدل يا نبيَّ الله، وإن كان ابن عمتك! قال: فتغيَّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عُرف أن قد ساءه ما قال، ثم قال: يا زبير، احبس الماء إلى الجدْرِ = أو: إلى الكعبين = ثم خل سبيل الماء. قال: ونزلت: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ". (29)9914 - حدثني عبد الله بن عمير الرازي قال، حدثنا عبد الله بن الزبير قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا عمرو بن دينار، عن سلمة رجلٍ من ولد أم سلمة، عن أم سلمة: أن الزبير خاصم رجلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير، فقال الرجل لما قضى للزبير: أن كان ابن عمتك! فأنزل الله: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا ". (30)* * *وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في المنافق واليهوديّ اللذين وصف الله صفتهما في قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ .*ذكر من قال ذلك:9915 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليما "، قال: هذا الرجل اليهوديُّ والرجل المسلم اللذان تحاكما إلى كعب بن الأشرف.9916 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.9917 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي، بنحوه = إلا أنه قال: إلى الكاهن. (31)* * *قال أبو جعفر: وهذا القول = أعني قول من قال: عني به المحتكمان إلى الطاغوت اللذان وصف الله شأنهما في قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ = أولى بالصواب، لأن قوله: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم " في سياق قصة الذين ابتدأ الله الخبر عنهم بقوله: (32) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ، ولا دلالة تدل على انقطاع قصتهم، فإلحاق بعض ذلك ببعض = ما " لم تأت دلالة على انقطاعه = أولى.* * *فإن ظن ظانٌّ أن في الذي روي عن الزبير وابن الزبير من قصته وقصة الأنصاري في شِراج الحرة، وقولِ من قال في خبرهما:فنزلت " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم " = ما ينبئ عن انقطاع حكم هذه الآية وقصتها من قصة الآيات قبلها، فإنه غير مستحيل أن تكون الآية نزلت في قصة المحتكمين إلى الطاغوت، (33) ويكون فيها بيان ما احتكم فيه الزبير وصاحبه الأنصاري، إذ كانت الآية دلالة دالة (34) وإذ كان ذلك غير مستحيل، كان إلحاق معنى بعض ذلك ببعضٍ، أولى، ما دام الكلام متسقة معانيه على سياق واحد، إلا أن تأتي دلالة على انقطاع بعض ذلك من بعض، فيُعْدَل به عن معنى ما قبله.* * *وأما قوله: " ويسلموا "، فإنه منصوب عطفًا، على قوله: " ثم لا يجدوا في أنفسهم " = وقوله: " ثم لا يجدوا في أنفسهم "، نصبٌ عطفًا على قوله: " حتى يحكموك فيما شجر بينهم ".* * *--------------------------------------------------------------------------------(21) "الشراج" (بكسر الشين) جمع"شرج" (بفتح فسكون) ، وهو مسيل الماء من الحرة إلى السهل. و"الحرة" موضع معروف بالمدينة ، وهي أرض ذات حجارة سود نخرة ، كأنما أحرقت بالنار. و"الكلأ" هو العشب ترعاه الأنعام. وكان في المطبوعة: "كلاهما" بغير همز ، وهو خطأ يوهم.(22) قوله: "سرح الماء" ، أي أطلقه ، لأن الماء كان يمر على أرض الزبير قبل أرض الأنصاري ، فكان يحبسه حتى يسقي أرضه.(23) قوله: "أن كان..." ، "أن" (بفتح الألف وسكون النون) ، التعليل ، يقول أمن أجل أنه ابن عمتك؟ وأم الزبير هي: صفية بنت عبد المطلب ، عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(24) "الجدر" (بفتح الجيم وسكون الدال) ، وهي الحواجز التي تحبس الماء.(25) الظاهر أن قول أبي جعفر: "والصواب: استوعب" ، إنما عنى به صواب الرواية في هذا الخبر بهذا الإسناد ، ولا أظن أبا جعفر ينكر"استوعى" أن تكون صحيحة ، فإن"استوعى" بمعنى: استوعب الحق واستوفاه ، عربي صحيح لا شك فيه.(26) "أحفظه" أغضبه.(27) الحديث: 9912 - سياق هذا الإسناد ظاهره أنه من حديث"الزبير بن العوام" - لقوله"أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام". ويحتمل أن يكون من حديث"عبد الله بن الزبير" حكاية عن القصة. وقد جاء الحديث بسياقات أخر ، بعضها ظاهره أنه من حديث عروة بن الزبير - يحكي القصة ، فيكون ظاهره الإرسال. وبعضها ظاهره أنه من رواية عروة عن أبيه الزبير ، كما سيأتي:فرواه ابن أبي حاتم - فيما نقل عنه ابن كثير 2: 503 - بإسناد الطبري هذا: عن يونس بن عبد الأعلى ، عن ابن وهب ، به.وكذلك رواه ابن الجارود في المنتقى ، ص: 453 ، عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، عن ابن وهب.وكذلك رواه الإسماعيلي ، فيما نقله عند الحافظ في الفتح 5: 26.ورواه النسائي 2: 308 - 309 ، كرواية الطبري هذه. ولكن عن شيخين: يونس بن عبد الأعلى والحارث بن مسكين - كلاهما عن ابن وهب ، بهذا الإسناد - وعند هؤلاء جميعًا - كما هنا: "أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام".ورواه أحمد في المسند: 16185 (ج4 ص4 - 5 حلبي) ، في مسند عبد الله بن الزبير - عن هاشم بن القاسم ، عن الليث ، عن ابن شهاب ، "عن عروة بن الزبير ، عن عبد الله بن الزبير ، قال: خاصم رجل من الأنصار الزبير" ، إلخ.وبنحو ذلك رواه البخاري 5: 26 - 28 ، ومسلم 2: 221 ، وأبو داود: 3637 ، والترمذي 2: 289 - 290 ، وابن ماجه: 2480 ، وابن حبان في صحيحه: 23 (بتحقيقنا) - كلهم من طريق الليث بن سعد ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عبد الله بن الزبير ، حكاية للقصة. وفي بعض ألفاظهم: "عن عروة: أن عبد الله بن الزبير حدثه". وظاهر هذه الأسانيد أنه من حديث"عبد الله بن الزبير" - حكاية للقصة ، ليس فيها التصريح بروايته عن أبيه الزبير بن العوام.وقال البخاري عقب هذه الرواية: "ليس أحد يذكر: عروة عن عبد الله - إلا الليث فقط".وقد تعقبه الحافظ ابن حجر برواية"النسائي وغيره" - المطابقة لرواية الطبري هنا وابن الجارود وابن أبي حاتم - أن يونس بن يزيد الأيلي ذكر فيه"عن عبد الله بن الزبير" ، كما ذكره الليث. بل زاد ابن وهب في روايته هذه عن يونس والليث: أنه"عن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه الزبير بن العوام".ورواه أحمد في المسند: 1419 ، عن أبي اليمان ، عن شعيب ، عن الزهري ، قال ، "أخبرني عروة بن الزبير: أن الزبير كان يحدث أنه خاصم رجلا من الأنصار" - إلخ.وكذلك رواه البخاري 5: 227 (فتح) ، عن أبي اليمان ، بهذا الإسناد ، كرواية أحمد.فهذه الرواية ظاهرها أن عروة يروي الحديث فيها عن أبيه الزبير بن العوام مباشرة.وقد نقل ابن كثير 2: 502 - 503 هذه الرواية عن المسند. ثم قال: "هكذا رواه الإمام أحمد ، وهو منقطع بين عروة وبين أبيه الزبير ، فإنه لم يسمع منه. والذي يقطع به أنه سمعه من أخيه عبد الله".وقد تعقبته في شرح المسند: 1419 فقلت: إن الحديث حديث الزبير ، ولا يبعد أن يكون سمعه منه أبناه عبد الله وعروة ، وأن يكون عروة سمعه أيضًا من أخيه عبد الله ، أو ثبته عبد الله فيه. وأما ادعاء أن عروة لم يسمع من أبيه فالأدلة تنقضه ، فإنه كان مراهقًا أو بالغًا عند مقتل أبيه ، كانت سنه 13 سنة. وفي التهذيب 7: 185: "قال مسلم بن الحجاج في كتاب التمييز: حج عروة مع عثمان ، وحفظ عن أبيه فمن دونهما من الصحابة".وأزيد هنا أن البخاري صرح في ترجمة"عروة" في التاريخ الكبير 4 / 1 / 31 بسماعه من أبيه ، فقال: "سمع أباه وعائشة وعبد الله بن عمر". وأن الإمام أحمد روى حديثًا آخر قبله: 1418 ، من طريق هشام بن عروة ، "عن عروة ، قال: أخبرني أبي الزبير" - وإسناده صحيح ، وفيه التصريح بسماع عروة من أبيه ، وأن الحافظ في الفتح 5: 26 قال: "وإنما صححه البخاري - مع هذا الاختلاف - اعتمادًا على صحة سماع عروة من أبيه".ورواه عروة أيضًا من عند نفسه ، حكاية للقصة ، دون أن يذكر أنه عن اخيه أو عن أبيه - فيكون ظاهره أنه حديث مرسل ، كما في الرواية الآتية عقب هذه ، وسيأتي باقي الكلام هناك.(28) في المطبوعة: حذف قوله: "من بني أمية" ، كأنه ظن أن"بني أمية" هنا هم القرشيون!! و"بنو أمية" هنا: هم بنو أمية بن زيد بن قيس بن عامر بن مرة بن مالك بن الأوس.(29) الحديث: 9913 - إسماعيل بن إبراهيم: هو ابن علية.عبد الرحمن بن إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن كنانة: ثقة ، وثقه ابن معين والبخاري وغيرهما. وأخرج له مسلم في صحيحه. مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 212 - 213.وهذا الحديث صورته صورة الإرسال ، كما أشرنا في الحديث قبله. لأن عروة بن الزبير - وهو تابعي - يحكي القصة ، دون أن يذكر روايته إياها عن أبيه أو عن أخيه.وكذلك رواه يحيى بن آدم في كتاب الخراج ، رقم: 337 (بتحقيقنا) ، عن ابن علية ، كرواية الطبري هذه.وبهذه الصورة - صورة الإرسال - رواه البخاري 5: 29 (فتح) ، من طريق معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، قال: "خاصم الزبير رجلا". - إلخ. وكذلك رواه مرة أخرى 8: 191 ، من طريق معمر.وكذلك رواه 5: 30 ، من طريق ابن جريج ، عن الزهري - على صوره الإرسال.وأشار الحافظ في الفتح 5: 26 إلى روايات أخر عن الزهري توافق روايتي معمر وابن جريج على روايته بصورة الحديث المرسل.والراجح عندي أن عروة سمع الحديث من أبيه مع أخيه عبد الله ، ولعله لم يتثبت من حفظه تمامًا لصغر سنه ، فسمعه مرة أخرى من أخيه. فحدث به على تارات: يذكر أنه عن أخيه عن أبيه. أو يذكر أنه عن أبيه مباشرة. أو يرسل القصة إرسالا دون ذكر واحد منهما لثقته بسماعها واطمئنانه.ولذلك أخرج البخاري في صحيحه الرواية التي صورتها صورة الإرسال في موضعين ، توثيقًا منه لثبوته موصولا. وأريد الحافظ في الفتح 5: 26 صنيع البخاري هذا بقوله: "ثم الحديث ورد في شيء يتعلق بالزبير ، فداعية ولده متوفرة على ضبطه".والحديث - في أصله - ذكره السيوطي 2: 180 ، وزاد نسبته لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والبيهقي.(30) الحديث: 9914 - عبد الله بن عمير الرازي - شيخ الطبري: لم أجد له ترجمة ولا ذكرًا في شيء من المراجع.عبد الله بن الزبير بن عيسى الأسدي: هو الحميدي الإمام الثقة المشهور ، من شيوخ البخاري. قال أبو حاتم: "هو أثبت الناس في ابن عيينة ، وهو رئيس أصحابه ، وهو ثقة إمام". مات سنة 219.سفيان: هو ابن عيينة."سلمة رجل من ولد أم سلمة": هو"سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة". مضت ترجمته في: 8368 ، 8369.وهذا الحديث فيه القصة السابقة التي رواها عروة بن الزبير.وقد أشار إليه الحافظ في الفتح 5: 26 ، قال: "وقد جاءت هذه القصة من وجه آخر ، أخرجها الطبري والطبراني ، من حديث أم سلمة".وقد ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج7 ص4) بنحوه. وقال: "رواه الطبراني ، وفيه يعقوب بن حميد ، وثقه ابن حبان ، وضعفه غيره".وليس"يعقوب بن حميد" في هذا الإسناد - إسناد الطبري - فهو وجه آخر.وقد ذكره ابن كثير 2: 503 - 504 من كتاب ابن مردويه ، من طريق الفضل بن دكين ، عن ابن عيينة ، بهذا الإسناد. ولكن فيه: "عن رجل من آل أبي سلمة ، قال: خاصم الزبير رجلا" - إلخ. فلم يذكر فيه"عن أم سلمة".وذكره السيوطي 2: 180 ، وزاد نسبته للحميدي - وهو الوجه الذي في الطبري هنا - وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر.(31) وهناك قول آخر ذكر الطبري فيما سلف ، دليله في الأثر رقم: 5819 ، أن الآية نزلت في رجل من الأنصار يقال له أبو الحصين ، كان له ابنان فتنصرا. وقد بينت آنفًا في 5: 410 ، تعليق: 4 ، أن هذا من الأدلة على اختصار أبي جعفر تفسيره هذا.(32) في المطبوعة: "الذين أسدى الله الخبر عنهم" ، وهو كلام خلو من كل معنى ، أوقعه فيه أنه لم يحسن قراءة المخطوطة ، ولم يعرف قط قاعدة ناسخها ، فإنه يكتب"ابتدأ" هكذا: "ابتدى" غير منقوطة.(33) في المطبوعة: "في حصة المحتكمين" ، وهو خطأ في الطباعة.(34) في المطبوعة: "إذ كانت الآية دالة على ذلك" ، وأثبت ما في المخطوطة وهو صواب.
﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ﴾