لولا كتاب من الله سبق به القضاء والقدر بإباحة الغنيمة وفداء الأسرى لهذه الأمة، لنالكم عذاب عظيم بسبب أخْذكم الغنيمة والفداء قبل أن ينزل بشأنهما تشريع.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«لولا كتاب من الله سبق» بإحلال الغنائم والأسرى لكم «لمسَّكم فيما أخذتم» من الفداء «عذاب عظيم».
﴿ تفسير السعدي ﴾
لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ به القضاء والقدر، أنه قد أحل لكم الغنائم، وأن اللّه رفع عنكم أيها الأمة العذاب لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ وفي الحديث: (لو نزل عذاب يوم بدر، ما نجا منه إلا عمر)
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله تعالى : ( لولا كتاب من الله سبق ) قال ابن عباس : كانت الغنائم حراما على الأنبياء والأمم فكانوا إذا أصابوا شيئا من الغنائم جعلوه للقربان ، فكانت تنزل نار من السماء فتأكله ، فلما كان يوم بدر أسرع المؤمنون في الغنائم وأخذوا الفداء ، فأنزل الله - عز وجل - : " لولا كتاب من الله سبق " يعني لولا قضاء من الله سبق في اللوح المحفوظ بأنه يحل لكم الغنائم .وقال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير : لولا كتاب من الله سبق أنه لا يعذب أحدا ممن شهد بدرا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - .وقال ابن جريج : لولا كتاب من الله سبق أنه لا يضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ، وأنه لا يأخذ قوما فعلوا أشياء بجهالة ( لمسكم ) لنالكم وأصابكم ، ( فيما أخذتم ) من الفداء قبل أن تؤمروا به ، ( عذاب عظيم )قال ابن إسحاق : لم يكن من المؤمنين أحد ممن أحضر إلا حب الغنائم إلا عمر بن الخطاب فإنه أشار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الأسرى ، وسعد بن معاذ قال : يا رسول الله كان الإثخان في القتل أحب إلي من استبقاء الرجال ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لو نزل عذاب من السماء ما نجا منه غير عمر بن الخطاب وسعد بن معاذ " .
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك بعض مظاهر رحمته بالمؤمنين: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.والمراد بالكتاب هنا: الحكم، وأطلق عليه كتاب لأن هذا الحكم مكتوب في اللوح المحفوظ.وللمفسرين أقوال في تفسير هذا الحكم السابق في علم الله- تعالى-:فمنهم من يرى أن المراد به أنه- سبحانه- لا يعذب المخطئ في اجتهاده.وقد صدر صاحب الكشاف تفسيره لهذه الآية بهذا الرأى فقال قوله: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ. أى: لولا حكم منه سبق إثباته في اللوح المحفوظ، وهو أنه- سبحانه- لا يعاقب أحدا بخطإ، وكان هذا خطأ في الاجتهاد، لأنهم نظروا في أن استبقاءهم ربما كان سببا في إسلامهم وتوبتهم وأن فداءهم يتقوى به على الجهاد في سبيل الله، وخفى عليهم أن قتلهم أعز للإسلام وأهيب لمن وراءهم، وأفل لشوكتهم..».ومنهم من يرى أن المراد به أنه- سبحانه- لا يعذب قوما إلا بعد تقديم النهى عن الفعل ولم يتقدم نهى عن أخذ الفداء.ومنهم من يرى أن المراد به أنه- سبحانه- لا يعذبهم ما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم.أو أنه- سبحانه- لا يعذب أحدا ممن شهد بدرا.وقد ساق الإمام الرازي هذه الأقوال وناقشها ثم اختار أن المراد بالكتاب الذي سبق: هو حكمه- سبحانه- في الأزل بالعفو عن هذه الواقعة، لأنه كتب على نفسه الرحمة، وسبقت رحمته غضبه.أما الإمام ابن جرير فهو يرى: أن الآية خبر عام غير محصور على معنى دون معنى، وأنه لا وجه لأن يخص من ذلك معنى دون معنى.. فقال: يقول الله- تعالى- لأهل بدر الذين أخذوا من الأسرى الفداء لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ ...أى: لولا قضاء من الله سبق لكم أهل بدر في اللوح المحفوظ بأن الله يحل لكم الغنيمة، وأن الله قضى أنه لا يضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون، وأنه لا يعذب أحدا شهد هذا المشهد الذي شهدتموه ببدر.. لولا كل ذلك لنالكم من الله بأخذكم الفداء عذاب عظيم» .ويبدو لنا أن ما ذهب إليه ابن جرير- من أن الآية خبر عام يشمل كل هذه المعاني- أولى بالقبول، لأنه لم يوجد نص صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم يحدد تفسير المراد من هذا الكتاب السابق في علمه- تعالى-.ولعل الحكمة في هذا الإبهام لتذهب الأفهام فيه إلى كل ما يحتمله اللفظ، ويدل عليه المقام، ولكي يعرفوا أن أخذهم الفداء كان ذنبا يستحقون العقوبة عليه لولا أن الله- تعالى- قدر في الأزل العفو عنهم بسبب وجود النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، ولأنهم قد أخطئوا في اجتهادهم، ولأنهم لم يتقدم لهم نهى عن ذلك، ولأنهم قد شهدوا هذه الغزوة التي قال الرسول في شأن من حضرها على لسان ربه- عز وجل-: «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» .فقد روى الشيخان وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر في قصة حاطب بن أبى بلتعة عند ما أخبر المشركين بأن الرسول سيغزوهم قبل فتح مكة وكان حاطب قد شهد بدرا:«وما يدريك لعل الله- تعالى- اطلع على أهل بدر وقال: «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».والمعنى الإجمالى للآية الكريمة: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ أى: لولا حكم من الله- تعالى- سبق منه في الأزل ألا يعذب المخطئ على اجتهاده أو ألا يعذب قوما قبل تقديم البيان إليهم.. ولولا كل ذلك لَمَسَّكُمْ أى لأصابكم فِيما أَخَذْتُمْ أى بسبب ما أخذتم من الفداء قبل أن تؤمروا به عَذابٌ عَظِيمٌ لا يقادر قدره في شدته وألمه.قال ابن جرير: قال ابن زيد: لم يكن من المؤمنين أحد ممن نصر إلا أحب الغنائم إلا عمر بن الخطاب، جعل لا يلقى أسيرا إلا ضرب عنقه وقال: يا رسول الله مالنا وللغنائم؟ نحن قوم نجاهد في دين الله حتى يعبد الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو عذبنا في هذا الأمر يا عمر ما نجا غيرك» ..وقال ابن إسحاق: لما نزلت لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ ... الآية. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو نزل عذاب من السماء لم ينج منه إلا سعد بن معاذ لقوله: يا نبي الله، كان الإثخان في القتل أحب إلى من استبقاء الرجال».وقال بعض العلماء: قال القاضي، وفي الآية دليل على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجتهدون، وأنه قد يكون خطأ، ولكن لا يقرون عليه .
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
قال : وأنزل الله - عز وجل - : ( لولا كتاب من الله سبق ) الآية .وقد سبق في أول السورة حديث ابن عباس في صحيح مسلم بنحو ذلك .وقال الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما تقولون في هؤلاء الأسارى ؟ قال : فقال أبو بكر : يا رسول الله ، قومك وأهلك ، استبقهم واستتبهم ، لعل الله أن يتوب عليهم . قال : وقال عمر : يا رسول الله ، أخرجوك ، وكذبوك ، فقدمهم فاضرب أعناقهم . قال : وقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله ، أنت في واد كثير الحطب ، فأضرم الوادي عليهم نارا ، ثم ألقهم فيه . [ قال : فقال العباس : قطعت رحمك ] قال : فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يرد عليهم شيئا ، ثم قام فدخل ، فقال ناس : يأخذ بقول أبي بكر . وقال ناس : يأخذ بقول عمر . وقال ناس : يأخذ بقول عبد الله بن رواحة . ثم خرج عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن ، وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم ، عليه السلام ، قال : ( فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ) [ إبراهيم : 36 ] ، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى ، عليه السلام ، قال : ( إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) [ المائدة : 118 ] ، وإن مثلك يا عمر مثل موسى عليه السلام ، قال : ( ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ) [ يونس : 88 ] ، وإن مثلك يا عمر كمثل نوح عليه السلام ، قال : ( رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) [ نوح : 26 ] ، أنتم عالة فلا ينفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضربة عنق . قال ابن مسعود : قلت : يا رسول الله ، إلا سهيل بن بيضاء ، فإنه يذكر الإسلام ، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع علي حجارة من السماء مني في ذلك اليوم ، حتى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إلا سهيل بن بيضاء فأنزل الله تعالى : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى ) إلى آخر الآية .رواه الإمام أحمد والترمذي ، من حديث أبي معاوية ، عن الأعمش ، والحاكم في مستدركه ، وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه ، عن عبد الله بن عمر ، وأبي هريرة - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه ، وفي الباب عن أبي أيوب الأنصاري .وروى ابن مردويه أيضا - واللفظ له - والحاكم في مستدركه ، من حديث عبيد الله بن موسى : حدثنا إسرائيل ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : لما أسر الأسارى يوم بدر ، أسر العباس فيمن أسر ، أسره رجل من الأنصار ، قال : وقد أوعدته الأنصار أن يقتلوه . فبلغ ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إني لم أنم الليلة من أجل عمي العباس ، وقد زعمت الأنصار أنهم قاتلوه ، فقال له عمر : فآتهم ؟ قال : نعم ، فأتى عمر الأنصار فقال لهم : أرسلوا العباس فقالوا : لا والله لا نرسله . فقال لهم عمر : فإن كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رضى ؟ قالوا : فإن كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رضى فخذه . فأخذه عمر فلما صار في يده قال له : يا عباس ، أسلم ، فوالله لأن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب ، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعجبه إسلامك ، قال : فاستشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر ، فقال أبو بكر : عشيرتك . فأرسلهم ، فاستشار عمر ، فقال : اقتلهم ، ففاداهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) الآية .قال الحاكم : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه .وقال سفيان الثوري ، عن هشام - هو ابن حسان - عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة ، عن علي - رضي الله عنه - قال : جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر فقال : خير أصحابك في الأسارى : إن شاءوا الفداء ، وإن شاءوا القتل على أن يقتل منهم مقبلا مثلهم . قالوا : الفداء ويقتل منا .رواه الترمذي ، والنسائي ، وابن حبان في صحيحه من حديث الثوري ، به وهذا حديث غريب جدا .وقال ابن عون [ عن محمد بن سيرين ] عن عبيدة ، عن علي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أسارى يوم بدر : إن شئتم قتلتموهم ، وإن شئتم فاديتموهم واستمتعتم بالفداء ، واستشهد منكم بعدتهم . قال : فكان آخر السبعين ثابت بن قيس ، قتل يوم اليمامة ، رضي الله عنه .ومنهم من روى هذا الحديث عن عبيدة مرسلا ، فالله أعلم .وقال محمد بن إسحاق ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، عن ابن عباس : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى ) فقرأ حتى بلغ : ( عذاب عظيم ) قال : غنائم بدر ، قبل أن يحلها لهم ، يقول : لولا أني لا أعذب من عصاني حتى أتقدم إليه ، لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم .وكذا روى ابن أبي نجيح ، عن مجاهد .وقال الأعمش : سبق منه ألا يعذب أحدا شهد بدرا . وروي نحوه عن سعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن جبير ، وعطاء .وقال شعبة ، عن أبي هاشم عن مجاهد : ( لولا كتاب من الله سبق ) أي : لهم بالمغفرة ونحوه عن سفيان الثوري ، رحمه الله .وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : ( لولا كتاب من الله سبق ) يعني : في أم الكتاب الأول أن المغانم والأسارى حلال لكم ، ( لمسكم فيما أخذتم ) من الأسارى ( عذاب عظيم )
﴿ تفسير القرطبي ﴾
قوله تعالى لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فيه مسألتان :الأولى : قوله تعالى : لولا كتاب من الله سبق في أنه لا يعذب قوما حتى يبين لهم ما يتقون . واختلف الناس في كتاب الله السابق على أقوال ، أصحها ما سبق من إحلال الغنائم ، فإنها كانت محرمة على من قبلنا . فلما كان يوم بدر ، أسرع الناس إلى الغنائم فأنزل الله عز وجل لولا كتاب من الله سبق أي بتحليل الغنائم . وروى أبو داود الطيالسي في مسنده : حدثنا سلام عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : لما كان يوم بدر تعجل الناس إلى الغنائم فأصابوها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الغنيمة لا تحل لأحد سود الرءوس غيركم . فكان النبي وأصحابه إذا غنموا الغنيمة جمعوها ونزلت نار من السماء فأكلتها فأنزل الله تعالى : لولا كتاب من الله سبق إلى آخر الآيتين . وأخرجه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح ، وقال مجاهد والحسن . وعنهما أيضا وسعيد بن جبير : الكتاب السابق هو مغفرة الله لأهل بدر ، ما تقدم أو تأخر من ذنوبهم . وقالت فرقة : الكتاب السابق هو عفو الله عنهم في هذا الذنب ، معينا . والعموم أصح ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر في أهل بدر : وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم . خرجه مسلم . وقيل : الكتاب السابق هو ألا يعذبهم ومحمد عليه السلام فيهم . وقيل : الكتاب السابق هو ألا يعذب أحدا بذنب أتاه جاهلا حتى يتقدم إليه . وقالت فرقة : الكتاب السابق هو مما قضى الله من محو الصغائر باجتناب الكبائر . وذهب الطبري إلى أن هذه المعاني كلها داخلة تحت اللفظ وأنه يعمها ، ونكب عن تخصيص معنى دون معنى .الثانية : ابن العربي : وفي الآية دليل على أن العبد إذا اقتحم ما يعتقده حراما مما هو في علم الله حلال له لا عقوبة عليه ، كالصائم إذا قال : هذا يوم نوبي فأفطر الآن . أو تقول المرأة : هذا يوم حيضتي فأفطر ، ففعلا ذلك ، وكان النوب والحيض الموجبان للفطر ، ففي المشهور من المذهب فيه الكفارة ، وبه قال الشافعي . وقال أبو حنيفة : لا كفارة عليه ، وهي الرواية الأخرى . وجه الرواية الأولى أن طرو الإباحة لا يثبت عذرا في عقوبة التحريم عند الهتك ، كما لو وطئ امرأة ثم نكحها . وجه الرواية الثانية أن حرمة اليوم ساقطة عند الله عز وجل فصادف الهتك محلا لا حرمة له في علم الله ، فكان بمنزلة ما لو قصد وطء امرأة قد زفت إليه وهو يعتقدها أنها ليست بزوجته فإذا هي زوجته . وهذا أصح . والتعليل الأول لا يلزم ، لأن علم الله سبحانه وتعالى مع علمنا قد استوى في مسألة التحريم ، وفي مسألتنا اختلف فيها علمنا وعلم الله فكان المعول على علم الله . كما قال : لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم .
﴿ تفسير الطبري ﴾
القول في تأويل قوله : لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لأهل بدر الذين غنموا وأخذوا من الأسرى الفداء: (لولا كتاب من الله سبق)، يقول: لولا قضاء من الله سبق لكم أهل بدر في اللوح المحفوظ، بأن الله مُحِلٌّ لكم الغنيمة, وأن الله قضى فيما قضى أنه لا يُضِلّ قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون, (49) وأنه لا يعذب أحدًا شهد المشهد الذي شهدتموه ببدر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصرًا دينَ الله = لنالكم من الله، بأخذكم الغنيمة والفداء، عذاب عظيم. (50)* * *وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:16295- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي قال، حدثنا عوف, عن الحسن في قوله: (لولا كتاب من الله سبق) الآية, قال: إن الله كان مُطْعِم هذه الأمة الغنيمةَ, وإنهم أخذوا الفداء من أسارى بدر قبل أن يؤمروا به. قال: فعاب الله ذلك عليهم, ثم أحله الله.16296- حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا بشر بن المفضل عن عوف, عن الحسن في قول الله: (لولا كتاب من الله سبق) الآية, وذلك يوم بدر, وأخذ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المغانمَ والأسارى قبل أن يؤمروا به, وكان الله تبارك وتعالى قد كتب في أم الكتاب: " المغانم والأسارى حلال لمحمد وأمته ", ولم يكن أحله لأمة قبلهم، وأخذوا المغانم وأسروا الأسارى قبل أن ينزل إليهم في ذلك, قال الله: (لولا كتاب من الله سبق)، يعني في الكتاب الأول. أن المغانم والأسارى حلال لكم =(لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) .16297- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: (لولا كتاب من الله سبق) الآية, وكانت الغنائم قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم في الأمم، إذا أصابوا مغنمًا جعلوه للقربان, وحرم الله عليهم أن يأكلوا منه قليلا أو كثيرًا. حُرِّم ذلك على كل نبي وعلى أمته, فكانوا لا يأكلون منه، ولا يغلُّون منه، ولا يأخذون منه قليلا ولا كثيرًا إلا عذبهم الله عليه. وكان الله حرمه عليهم تحريمًا شديدًا, فلم يحله لنبيّ إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم . وكان قد سبق من الله في قضائه أن المغنم له ولأمته حلال, فذلك قوله يوم بدر، في أخذ الفداء من الأسارى: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) .16298- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن عروة, عن الحسن: (لولا كتاب من الله سبق) قال: إن الله كان مُعطِيَ هذه الأمة الغنيمةَ, وفعلوا الذي فعلوا قبل أن تُحَلّ الغنيمة.16299- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر قال، قال الأعمش في قوله: (لولا كتاب من الله سبق)، قال: سبق من الله أن أحل لهم الغنيمة.16300- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن بشير بن ميمون قال: سمعت سعيدًا يحدث، عن أبي هريرة, قال: قرأ هذه الآية: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم)، قال: يعني: لولا أنه سبق في علمي أني سأحلُّ الغنائم, لمسكم فيما أخذتم من الأسارى عذاب عظيم. (51)16301- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح, وأبو معاوية بنحوه, عن الأعمش, عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أحلت الغنائم لأحدٍ سُودِ الرؤوس من قبلكم, كانت تنزل نارٌ من السماء وتأكلها, حتى كان يوم بدر, فوقع الناس في الغنائم, فأنزل الله: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم)، حتى بلغ، حَلالا طَيِّبًا .16302- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن أبي صالح, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم , بنحوه = قال: فلما كان يوم بدر أسرَع الناس في الغنائم. (52)16303- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن فضيل, عن أشعث بن سوار, عن ابن سيرين, عن عبيدة, قال: أسر المسلمون من المشركين سبعين وقتلوا سبعين, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اختاروا أن تأخذوا منهم الفداء فتقوَّوْا به على عدوكم, وإن قبلتموه قتل منكم سبعون = أو تقتلوهم! فقالوا: بل نأخذ الفدية منهم, وقُتل منهم سبعون، قال عبيدة، وطلبوا الخيرتين كلتيهما. (53)16304- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن فضيل, عن أشعث, عن عبيدة قال: كان فداء أسارى بدر مئة أوقية, و " الأوقية " أربعون درهمًا, ومن الدنانير ستة دنانير. (54)16305- حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا ابن علية قال، حدثنا ابن عون, عن ابن سيرين, عن عبيدة: أنه قال في أسارى بدر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئتم قتلتموهم, وإن شئتم فاديتموهم واستشْهِد منكم بعِدَّتهم! فقالوا: بلى, (55) نأخذ الفداء فنستمتع به، ويستشهد منا بعِدَّتهم.16306- حدثني أحمد بن محمد الطوسي قال، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثنا همام بن يحيى قال، حدثنا عطاء بن السائب, عن أبي وائل, عن عبد الله بن مسعود قال: أمر عمر رحمه الله عنه بقتل الأسارى, فأنزل الله: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم). (56)16307- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (لولا كتاب من الله سبق)، قال: كان المغنم محرَّمًا على كل نبي وأمته, وكانوا إذا غنموا يجعلون المغنم لله قربانًا تأكله النار. وكان سبق في قضاء الله وعلمه أن يحلّ المغنم لهذه الأمة، يأكلون في بطونهم.16308- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن عطاء في قول الله: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم)، قال: كان في علم الله أن تحلّ لهم الغنائم, فقال: (لولا كتاب من الله سبق)، بأنه أحل لكم الغنائم =(لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم).* * *وقال آخرون: معنى ذلك: لولا كتاب من الله سبق لأهل بدر، أن لا يعذبهم، لمسهم عذاب عظيم.* ذكر من قال ذلك:16309- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري, عن شريك, عن سالم, عن سعيد: (لولا كتاب من الله سبق)، قال: لأهل بدر، من السعادة.16310- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: (لولا كتاب من الله سبق)، لأهل بدر مَشْهدَهم.16311- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن: (لولا كتاب من الله سبق)، قال: سبق من الله خيرٌ لأهل بدر.16312- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم)، كان سبق لهم من الله خير, وأحلّ لهم الغنائم.16313- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد, عن عمرو بن عبيد, عن الحسن: (لولا كتاب من الله سبق)، قال: (سبق)، أن لا يعذب أحدًا من أهل بدر.16314- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: (لولا كتاب من الله سبق)، لأهل بدر، ومشهدَهم إياه.16315- حدثني يونس قال، أخبرني ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم)، لمسكم فيما أخذتم من الغنائم يوم بدر قبل أن أحلها لكم. فقال: سبق من الله العفو عنهم والرحمة لهم، سبق أنه لا يعذب المؤمنين, لأنه لا يعذب رَسوله ومن آمن به وهاجر معه ونصره.* * *وقال آخرون: معنى ذلك: (لولا كتاب من الله سبق)، أن لا يؤاخذ أحدًا بفعل أتاه على جهالة =(لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم).* ذكر من قال ذلك:16316- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: (لولا كتاب من الله سبق)، لأهل بدر ومشهدَهم إياه, قال: كتاب سبق لقوله: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ [سورة التوبة: 115]، سبق ذلك، وسبق أن لا يؤاخذ قومًا فعلوا شيئًا بجهالة =(لمسكم فيما أخذتم)، قال ابن جريج، قال ابن عباس: (فيما أخذتم)، مما أسرتم. ثم قال بعد: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ .16317- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال: عاتبه في الأسارى وأخذ الغنائم, ولم يكن أحد قبله من الأنبياء يأكل مغنمًا من عدوٍّ له. (57)16318- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن محمد قال، حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نُصِرت بالرعب، وجُعِلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا, وأعطيت جوامع الكلم, وأحلّت لي المغانم، ولم تحلّ لنبيٍّ كان قبلي, وأعطيت الشفاعة, خمسٌ لم يُؤْتَهُنَّ نبيٌّ كان قبلي = قال محمد (58) فقال: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ ، أي: قبلك = أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى إلى قوله: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم)، أي: من الأسارى والمغانم =(عذاب عظيم)، أي: لولا أنه سبق مني أن لا أعذب إلا بعد النهي، ولم أكن نهيتكم، لعذبتكم فيما صنعتم. ثم أحلها له ولهم رحمةً ونعمةً وعائدةً من الرحمن الرحيم. (59)* * *قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، ما قد بيناه قبلُ. وذلك أن قوله: (لولا كتاب من الله سبق)، خبر عامٌّ غير محصور على معنى دون معنى، وكل هذه المعاني التي ذكرتها عمن ذكرت، مما قد سبق في كتاب الله أنه لا يؤاخذ بشيء منها هذه الأمة, وذلك: ما عملوا من عمل بجهالة, و إحلال الغنيمة، والمغفرة لأهل بدر, وكل ذلك مما كتب لهم. وإذ كان ذلك كذلك، فلا وجه لأن يخصّ من ذلك معنى دون معنى, وقد عم الله الخبر بكل ذلك، بغير دلالة توجب صحة القول بخصوصه.16319- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لم يكن من المؤمنين أحد ممن نُصِر إلا أحبَّ الغنائم، إلا عمر بن الخطاب, جعل لا يلقى أسيرًا إلا ضرب عنقه, وقال: يا رسول الله، ما لنا وللغنائم, نحن قوم نجاهد في دين الله حتى يُعبد الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو عذبنا في هذا الأمر يا عمر ما نجا غيرك! قال الله: لا تعودوا تستحلون قبل أن أحلّ لكم.16320- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق: لما نزلت: (لولا كتاب من الله سبق)، الآية, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو نزل عذابٌ من السماء لم ينج منه إلا سعد بن معاذ، لقوله: يا نبي الله، كان الإثخان في القتل أحبّ إلي من استبقاء الرجال. (60)--------------------الهوامش :(49) انظر تفسير " كتاب" فيما سلف من فهارس اللغة ( كتب ).(50) انظر تفسير " المس " فيما سلف 13 : 333 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك .(51) الأثر : 16300 - " بشير بن ميمون الخراساني الواسطي " ، أبو صيفي ، ضعيف ، منكر الحديث ، متهم بالوضع . وقال أبو حاتم : " ضعيف الحديث ، وعامة روايته مناكير " . وأجمعوا على طرح حديثه ، مترجم في التهذيب ، والكبير 1 2 105 ، وابن أبي حاتم 1 1 379 ، وميزان الاعتدال 1 : 153 ، 154 .و " سعيد " هو " سعيد بن أبي سعيد المقبري " .(52) الأثران : 16301 ، 16302 - حديث صحيح الإسناد ، إلا ما كان من أمر " جابر بن نوح الحماني " ، ليس حديثه بشيء ، ضعيف ، قال يحيى بن معين : " جابر بن نوح ، إمام مسجد بني حمان ، ولم يكن بثقة ، كان ضعيفًا " . مترجم في التهذيب ، والكبير 1 2 210 ، وابن أبي حاتم 1 1 500 ، وميزان الاعتدال 1 : 176 ، وأبو كريب رواه عن جابر ، وعن أبي معاوية ، فحديث أبي معاوية هو الصحيح .وهذا الخبر رواه الترمذي في كتاب التفسير من طريق عبد بن حميد ، عن معاوية بن عمرو ، عن زائدة ، عن الأعمش ، وقال : " هذا حديث حسن صحيح " .ورواه البيهقي في السنن 6 : 290 من طريق محاضر ، عن الأعمش ، ومن طريق أبي معاوية ، عن الأعمش .وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3 : 203 ، وزاد نسبته إلى النسائي ، وابن أبي شيبة في المصنف ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ ، وابن مردويه .(53) " الخيرة " ( بكسر الخاء وسكون الياء ، أو فتح الياء ) ، هو ما يختار ويصطفى من الخير .(54) انظر تقدير " الأوقية " فيما سلف في الأثر رقم : 16058 .(55) انظر مجيء " بلى " في غير جحد ، فيما سلف في الأثر رقم : 781 ج 1 : 554 ثم 2 : 280 ، 510 10 : 98 ، تعليق : 4 ثم 10 : 253 ، تعليق : 3 ثم 12 : 174 ، تعليق : 3 .(56) الأثر : 16306 - " همام بن يحيى بن دينار الأزدي " ، ثقة ، مضى برقم : 10190 ، 11725 .وهذا خبر صحيح إسناده .(57) الأثر : 16317 - سيرة ابن هشام 2 : 331 ، وهو سابق الأثر السالف رقم : 16292 في ترتيب السيرة .(58) قوله : " محمد " ، يعني محمد بن إسحاق ، لا " محمد بن علي " .(59) الأثر : 16318 - سيرة ابن هشام 2 : 332 ، وصدره تابع الأثر السالف رقم : 16317 ، وسابق للأثر رقم : 16292 ، ثم روى صدرًا من الأثر رقم : 16292 ، وأتبعه بما يليه في السيرة .(60) الأثر : 16320 - لم أجد هذا الخبر في سيرة ابن هشام ، فيما أقدر .
﴿ لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ﴾