وجادله قومه في توحيد الله تعالى قال: أتجادلونني في توحيدي لله بالعبادة، وقد وفقني إلى معرفة وحدانيته، فإن كنتم تخوفونني بآلهتكم أن توقع بي ضررًا فإنني لا أرهبها فلن تضرني، إلا أن يشاء ربي شيئًا. وسع ربي كل شيء علمًا. أفلا تتذكرون فتعلموا أنه وحده المعبود المستحق للعبودية؟
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«وحاجَّه قومه» جادلوه في دينه وهدَّدوه بالأصنام أن تصيبه بسوء إن تركها «قال أتُحَآجُّونِّي» بتشديد النون وتخفيفها بحذف إحدى النونين وهي نون الرفع عند النحاة ونون الوقاية عند القراء أتجادلونني «في» وحدانية «الله وقد هدان» تعالى إليها «ولا أخاف ما تشركونـ» ـه «به» من الأصنام أن تصيبني بسوء لعدم قدرتها على شيء «إلا» لكن «أن يشاء ربي شيئا» من المكروه يصيبني فيكون «وسع ربي كل شيء علما» أي وسع علمه كل شيء «أفلا تتذكرون» هذا فتؤمنون.
﴿ تفسير السعدي ﴾
وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ أيُّ فائدة لمحاجة من لم يتبين له الهدى؟ فأما من هداه الله، ووصل إلى أعلى درجات اليقين، فإنه –هو بنفسه- يدعو الناس إلى ما هو عليه. وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ فإنها لن تضرني، ولن تمنع عني من النفع شيئا. إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ فتعلمون أنه وحده المعبود المستحق للعبودية.
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله عز وجل : ( وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ) ولما رجع إبراهيم عليه السلام إلى أبيه ، وصار من الشباب بحالة سقط عنه طمع الذباحين ، وضمه آزر إلى نفسه جعل آزر يصنع الأصنام ويعطيها إبراهيم ليبيعها ، فيذهب بها إبراهيم عليه السلام وينادي من يشتري ما يضره ولا ينفعه ، فلا يشتريها أحد ، فإذا بارت عليه ذهب بها إلى نهر فضرب فيه رءوسها ، وقال : اشربي ، استهزاء بقومه ، وبما هم فيه من الضلالة ، حتى فشا استهزاؤه بها في قومه وأهل قريته ، فحاجه أي خاصمه وجادله قومه في دينه ، ( قال أتحاجوني في الله ) قرأ أهل المدينة وابن عامر بتخفيف النون ، وقرأ الآخرون بتشديدها إدغاما لإحدى النونين في الأخرى ، ومن خفف حذف إحدى النونين تخفيفا يقول : أتجادلونني في توحيد الله ، وقد هداني للتوحيد والحق؟ ( ولا أخاف ما تشركون به ) وذلك أنهم قالوا له : احذر الأصنام فإنا نخاف أن تمسك بسوء من خبل أو جنون لعيبك إياها ، فقال لهم : ولا أخاف ما تشركون به ، ( إلا أن يشاء ربي شيئا ) وليس هذا باستثناء عن الأول بل هو استثناء منقطع ، معناه لكن إن يشأ ربي شيئا أي سوءا ، فيكون ما شاء ، ( وسع ربي كل شيء علما ) أي : أحاط علمه بكل شيء ، ( أفلا تتذكرون )
﴿ تفسير الوسيط ﴾
المحاجة: المجادلة والمغالبة في إقامة الحجة، والحجة الدلالة المبينة للمحجة أى: المقصد المستقيم- كما قال الراغب- وتطلق الحجة على كل ما يدلى به أحد الخصمين في إثبات دعواه أو رد دعوى خصمه.فمعنى وَحاجَّهُ قَوْمُهُ أى: جادلوه وخاصموه أو شرعوا في مغالبته في أمر التوحيد تارة بإيراد أدلة فاسدة واقعة في حضيض التقليد، وأخرى بالتهديد والتخويف، فقد حكى القرآن أنهم قالوا له عند ما نهاهم عن عبادة الأصنام وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ.وقد رد عليهم إبراهيم ردا قويا جريئا فقال لهم: أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ أى أتجادلونني في شأنه- تعالى- وفي أدلة وحدانيته، والحال أنه- سبحانه- قد هداني إلى الدين الحق وإلى إقامة الدليل عليكم بأنه هو المستحق للعبادة.والاستفهام للإنكار والتوبيخ وتيئيسهم من رجوعه إلى معتقداتهم.وجملة وَقَدْ هَدانِ حال مؤكدة للإنكار أى لا جدوى من محاجتكم إياى بعد أن هداني الله إلى الطريق المستقيم، وجعلني من المبغضين للأصنام المحتقرين لها.ثم صارحهم بأنه لا يخشى أصنامهم ولا يقيم لها وزنا فقال: وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ أى لا أخاف معبوداتكم لأنها جمادات لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، ولا تقرب ولا تشفع. ويبدو أن قومه كانوا قد خوفوه بطش أصنامهم وقالوا له كما قالت قبيلة عاد لنبيها هود إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ فرد عليهم إبراهيم هذا الرد القوى الصريح.وقوله إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً استثناء مما قبله أى: لا أخاف معبوداتكم في جميع الأوقات إلا وقت مشيئة ربي شيئا من المكروه يصيبني من جهتها بأن يسقط على صنم يشجنى، فإن ذلك يقع بقدرة ربي ومشيئة لا بقدرة أصنامكم أو مشيئتها، وعلى هذا التفسير الذي ذهب إليه صاحب الكشاف يكون الاستثناء متصلا.ويرى ابن عطية وغيره أن الاستثناء منقطع على معنى: لا أخاف معبوداتكم ولكن أخاف أن يشاء ربي خوفي مما أشركتم به.وهذه الجملة الكريمة تدل على سمو أدب إبراهيم- عليه السلام- مع ربه، وعلى نهاية استسلامه لمشيئته، فمع أنه مؤمن بخالقه كل الإيمان وكافر بتلك الآلهة كل الكفران، إلا أنه ترك الأمر كله لمشيئة الله، وعلق مستقبله على ما يريد الله فيه.وقوله وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أى: أن علم ربي وسع كل شيء وأحاط به، فلا يبعد أن يكون في علمه إنزال ما يخفيني من جهة تلك المعبودات الباطلة لسبب من الأسباب.وهذه الجملة الكريمة مستأنفة استئنافا بيانيا فكأن قومه قد قالوا: كيف يشاء ربك شيئا تخافه فكان جوابه عليهم: وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً فأنا وإن كنت عبده وناصره إلا أنه أعلم بإلحاق الضر أو النفع بمن يشاء من عباده.وعِلْماً منصوب على التمييز المحول عن الفاعل، إذ الأصل في هذا التعبير «أن يقال:وسع علم ربي كل شيء، ولكن عدل به عن هذا النسق، وأسند الفعل فيه إلى الله لا إلى علمه، وجعل لفظ العلم تمييزا لا فاعلا ليكون الوسع والإحاطة والشمول لله، فيخلع التعبير ظلا أشمل وأفخم وأعمق وقعا في النفس.وقوله أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ أى تعرضون أيها الغافلون عن التأمل والتذكير بعد أن أوضحت لكم بما لا يقبل مجالا للشك أن الله وحده هو المستحق للعبادة وأن هذه المعبودات التي سواه لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا.فالاستفهام للإنكار والتوبيخ لعدم تذكرهم مع وضوح الدلائل.وفي إيراد التذكر دون التفكر ونحوه إشارة إلى أن أمر آلهتهم مركوز في العقول ولا يتوقف إلا على التذكير.
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
قول تعالى : وجادله قومه فيما ذهب إليه من التوحيد ، وناظروه بشبه من القول ، قال ( أتحاجوني في الله وقد هدان ) أي : تجادلونني في أمر الله وأنه لا إله إلا هو ، وقد بصرني وهداني إلى الحق وأنا على بينة منه؟ فكيف ألتفت إلى أقوالكم الفاسدة وشبهكم الباطلة؟!وقوله : ( ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا ) أي : ومن الدليل على بطلان قولكم فيما ذهبتم إليه أن هذه الآلهة التي تعبدونها لا تؤثر شيئا ، وأنا لا أخافها ، ولا أباليها ، فإن كان لها صنع ، فكيدوني بها [ جميعا ] ولا تنظرون ، بل عاجلوني بذلك .وقوله : ( إلا أن يشاء ربي شيئا ) استثناء منقطع . أي لا يضر ولا ينفع إلا الله ، عز وجل .( وسع ربي كل شيء علما ) أي : أحاط علمه بجميع الأشياء ، فلا تخفى عليه خافية .( أفلا تتذكرون ) أي : فيما بينته لكم فتعتبرون أن هذه الآلهة باطلة ، فتزجروا عن عبادتها؟ وهذه الحجة نظير ما احتج به نبي الله هود ، - عليه السلام - ، على قومه عاد ، فيما قص عنهم في كتابه حيث يقول : ( قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها [ إن ربي على صراط مستقيم ] ) [ هود : 53 - 56 ] .
﴿ تفسير القرطبي ﴾
قوله تعالى وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرونقوله تعالى وحاجه قومه دليل على الحجاج والجدال ؟ حاجوه في توحيد الله .قال أتحاجوني في الله وقد هداني قرأ نافع بتخفيف النون ، وشدد النون الباقون . وفيه عن ابن عامر من رواية هشام عنه خلاف ; فمن شدد قال : الأصل فيه نونان ، الأولى علامة الرفع والثانية فاصلة بين الفعل والياء ; فلما اجتمع مثلان في فعل وذلك ثقيل أدغم النون في الأخرى فوقع التشديد ولا بد من مد الواو لئلا يلتقي الساكنان ، الواو وأول المشدد ; فصارت المدة فاصلة بين الساكنين . ومن خفف حذف النون الثانية استخفافا لاجتماع المثلين ، ولم تحذف الأولى لأنها علامة الرفع ; فلو حذفت لاشتبه المرفوع بالمجزوم والمنصوب . وحكي عن أبي عمرو بن العلاء أن هذه القراءة لحن . وأجاز سيبويه ذلك فقال : استثقلوا التضعيف . وأنشد : تراه كالثغام يعل مسكا يسوء الفاليات إذا فليني ولا أخاف ما تشركون به أي لأنه لا ينفع ولا يضر وكانوا خوفوه بكثرة آلهتهم إلا أن يحييه الله ويقدره فيخاف ضرره حينئذ .إلا أن يشاء ربي شيئا أي إلا أن يشاء أن يلحقني شيء من المكروه بذنب عملته فتتم مشيئته . وهذا استثناء ليس من الأول . والهاء في " به " يحتمل أن تكون لله عز وجل ، ويجوز أن تكون للمعبود . وقال : إلا أن يشاء ربي يعني أن الله تعالى لا يشاء أن أخافهم .وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون أي وسع علمه كل شيء . وقد تقدم .
﴿ تفسير الطبري ﴾
القول في تأويل قوله : وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80)قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وجادل إبراهيم قومه في توحيد الله وبراءته من الأصنام، (72) وكان جدالهم إياه قولُهم: أن آلهتهم التي يعبدونها خير من إلهه. قال إبراهيم: " أتحاجوني في الله "، يقول: أتجادلونني في توحيدي الله وإخلاصي العمل له دون ما سواه من آلهة =" وقد هداني "، يقول: وقد وفقني ربي لمعرفة وحدانيته, (73) وبصّرني طريق الحقّ حتى أيقنتُ أن لا شيء يستحق أن يعبد سواه (74) =" ولا أخاف ما تشركون به "، يقول: ولا أرهب من آلهتكم التي تدعونها من دونه شيئًا ينالني به في نفسي من سوء ومكروه. (75) وذلك أنهم قالوا له: " إنا نخاف أن تمسَّك آلهتنا بسوء من برص أو خبل, لذكرك إياها بسوء "! فقال لهم إبراهيم: لا أخاف ما تشركون بالله من هذه الآلهة أن تنالَنِي بضر ولا مكروه, لأنها لا تنفع ولا تضر =" إلا أن يشاء ربي شيئًا "، يقول: ولكن خوفي من الله الذي خلقني وخلق السماوات والأرض, فإنه إن شاء أن ينالني في نفسي أو مالي بما شاء من فناء أو بقاءٍ، أو زيادة أو نقصان أو غير ذلك، نالني به, لأنه القادر على ذلك.* * *وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن جريج يقول:13466 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: " وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني "، قال: دعا قومُه مع الله آلهةً, وخوّفوه بآلهتهم أن يصيبَه منها خَبَل, فقال إبراهيم: " أتحاجوني في الله وقد هداني "، قال: قد عرفت ربّي, لا أخاف ما تشركون به.* * *=" وسع ربي كل شيء علمًا "، يقول: وعلم ربي كلَّ شيء، فلا يخفى عليه شيء, (76) لأنه خالق كل شيء, وليس كالآلهة التي لا تضرّ ولا تنفع ولا تفهم شيئًا, وإنما هي خشبة منحوتةٌ، وصورة ممثلة =" أفلا تتذكرون "، يقول: أفلا تعتبرون، أيها الجهلة، فتعقلوا خطأ ما أنتم عليه مقيمون، (77) من عبادتكم صورةً مصوّرة وخشبة منحوتة, لا تقدر على ضر ولا على نفع، ولا تفقه شيئًا ولا تعقله = وترككم عبادةَ من خلقكم وخلق كلّ شيء, وبيده الخير، وله القدرة على كل شيء، والعالم لكل شيء .-----------------الهوامش :(72) انظر تفسير"المحاجة" فيما سلف 3: 121 ، 5 : 429 ، 430 ، 6 : 280 ، 473 ، 492.(73) انظر تفسير"الهدى" فيما سلف من فهارس اللغة (هدى).(74) في المطبوعة والمخطوطة: "حتى ألفت أن لا شيء يستحق أن يعبد سواه" ، وهو لا معنى له ، صواب قراءته ما أثبت.(75) في المطبوعة: "ينالني في نفسي" بحذف"به" وهي ثابتة في المخطوطة ، ولكنه أساء كتابة"ينالني" ، فاجتهد الناشر ، فحذف.(76) انظر تفسير"السعة" فيما سلف 10: 423 ، تعليق: 4 ، والمراجع هناك.(77) انظر تفسير"التذكر" فيما سلف ص: 442 ، تعليق: 1 ، والمراجع هناك.
﴿ وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون ﴾