القرآن الكريم الفهرس التفسير الإعراب الترجمة القرآن mp3
القرآن الكريم

الآية 103 من سورة آل عمران - واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم

سورة آل عمران الآية رقم 103 : قراءة و استماع

قراءة و استماع الآية 103 من سورة آل عمران مكتوبة - عدد الآيات 200 - al-‘Imran - الصفحة 63 - الجزء 4.

سورة آل عمران الآية رقم 103

﴿ وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنٗا وَكُنتُمۡ عَلَىٰ شَفَا حُفۡرَةٖ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ ﴾
[ آل عمران: 103]


﴿ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ﴾


﴿ تفسير السعدي ﴾

ثم أمرهم تعالى بما يعينهم على التقوى وهو الاجتماع والاعتصام بدين الله، وكون دعوى المؤمنين واحدة مؤتلفين غير مختلفين، فإن في اجتماع المسلمين على دينهم، وائتلاف قلوبهم يصلح دينهم وتصلح دنياهم وبالاجتماع يتمكنون من كل أمر من الأمور، ويحصل لهم من المصالح التي تتوقف على الائتلاف ما لا يمكن عدها، من التعاون على البر والتقوى، كما أن بالافتراق والتعادي يختل نظامهم وتنقطع روابطهم ويصير كل واحد يعمل ويسعى في شهوة نفسه، ولو أدى إلى الضرر العام، ثم ذكرهم تعالى نعمته وأمرهم بذكرها فقال: واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء يقتل بعضكم بعضا، ويأخذ بعضكم مال بعض، حتى إن القبيلة يعادي بعضهم بعضا، وأهل البلد الواحد يقع بينهم التعادي والاقتتال، وكانوا في شر عظيم، وهذه حالة العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فلما بعثه الله وآمنوا به واجتمعوا على الإسلام وتآلفت قلوبهم على الإيمان كانوا كالشخص الواحد، من تآلف قلوبهم وموالاة بعضهم لبعض، ولهذا قال: فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار أي: قد استحقيتم النار ولم يبق بينكم وبينها إلا أن تموتوا فتدخلوها فأنقذكم منها بما مَنَّ عليكم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم كذلك يبين الله لكم آياته أي: يوضحها ويفسرها، ويبين لكم الحق من الباطل، والهدى من الضلال لعلكم تهتدون بمعرفة الحق والعمل به، وفي هذه الآية ما يدل أن الله يحب من عباده أن يذكروا نعمته بقلوبهم وألسنتهم ليزدادوا شكرا له ومحبة، وليزيدهم من فضله وإحسانه، وإن من أعظم ما يذكر من نعمه نعمة الهداية إلى الإسلام، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم واجتماع كلمة المسلمين وعدم تفرقها.

﴿ تفسير الوسيط ﴾

وبعد أن أمرهم- سبحانه- بمداومة خشيته، والاستمرار على دينه أتبع ذلك بأمرهم بالاعتصام بدينه وبكتابه فقال- تعالى- وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا.
فهذه الآية الكريمة تأكيد لما اشتملت عليه سابقتها من مداومة التقوى والطاعة الله رب العالمين.
والاعتصام: افتعال من عصم وهو طلب ما يعصم أى يمنع من السقوط والوقوع.
وأصل الحبل: ما يشد به للارتقاء أو التدلي أو للنجاة من غرق أو نحوه، أو للوصول إلى شيء معين.
والمراد بحبل الله هنا: دينه أو عهده، أو كتابه، لأن التمسك بهذه الأشياء يوصل إلى النجاة والفلاح.
والمعنى: كونوا جميعا مستمسكين بكتاب الله وبدينه وبعهوده، ولا تتفرقوا كما كان شأنكم في الجاهلية بضرب بعضكم رقاب بعض، بل عليكم أن تجتمعوا على طاعة الله وأن تكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا.
وبذلك تفوزون وتسعدون وتنتصرون على أعدائكم.
ففي الجملة الكريمة استعارة تمثيلية حيث شبه- سبحانه- الحالة الحاصلة من تمسك المؤمنين بدينه وبكتابه وبعهوده وبوحدة كلمتهم، بالحالة الحاصلة من تمسك جماعة بحبل وثيق مأمون الانقطاع ألقى إليهم من منقذ لهم من غرق أو سقوط أو نحوهما.
وإضافة الحبل إلى الله- تعالى- قرينة على هذا التمثيل.
وقوله جَمِيعاً حال من ضمير الجماعة في قوله وَاعْتَصِمُوا.
فالجملة الكريمة تأمر المسلمين جميعا أن يعتصموا بعهود الله وبدينه.
وبكتابه، وأن يكونوا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وأن ينبذوا التفرق والاختلاف الذي يؤدى إلى ضعفهم وفشلهم.
قال الفخر الرازي عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه: واعلم أن كل من يمشى على طريق دقيق يخاف أن ينزلق رجله، فإنه إذا تمسك بحبل مشدود الطرفين بجانبي ذلك الطريق أمن من الخوف.
ولا شك أن طريق الحق طريق دقيق، وقد انزلقت أرجل كثير من الخلق عنه، فمن اعتصم بدلائل الله وبيناته فإنه يأمن من ذلك الخوف فكان المراد من الحبل هنا: كل شيء يمكن التوصل به إليه الحق في طريق الدين، وهو أنواع كثيرة فمنهم من قال المراد به عهد الله.
.
ومنهم من قال المراد به القرآن، فقد جاء في الحديث «هو حبل الله المتين» ومنهم من قال المراد به طاعة الله.
.
وهذه الأقوال كلها متقاربة والتحقيق ما ذكرنا من أنه لما كان النازل في البئر يعتصم بحبل تحرزا من السقوط فيها وكان كتاب الله وعهده ودينه وطاعته وموافقته لجماعةالمؤمنين حرزا لصاحبه من السقوط في جهنم، جعل ذلك حبلا الله وأمروا بالاعتصام به .
ثم أمرهم- سبحانه- بتذكر نعم الله عليهم فقال: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً، وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها.
قوله شَفا حُفْرَةٍ الشفا طرف الشيء وحرفه مثل شفا البئر، وشفا الحفرة ومنه يقال: فلان أشفى على الشيء إذا أشرف عليه، كأنه بلغ شفاه أى حده وحرفه.
والمعنى: واذكروا أيها المؤمنون وتنبهوا بعقولكم وقلوبكم إلى نعمة الله عليكم بتأليف نفوسكم ورأب صدوعكم، فقد كنتم في الجاهلية أعداء متقاتلين متنازعين، فألف بين قلوبكم بأخوة الإسلام فأصبحتم متحابين متناصحين متوادين وكنتم على وشك الوقوع في النار بسبب اختلافكم وضلالكم فمن الله عليكم وأنقذكم من التردي فيها بهدايتكم إلى الحق عن طريق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي أرسله ربه رحمة للعالمين.
إذا فمن الواجب عليكم وفاء لهذه النعم أن تشكروا الله عليها وأن تطيعوا رسولكم صلّى الله عليه وسلّم وأن تتمسكوا بعرى المحبة والمودة والأخوة فيما بينكم.
قال ابن كثير: قوله- تعالى- وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً.
.
إلخ.
هذا السياق في شأن الأوس والخزرج، فإنه كان بينهم حروب كثيرة في الجاهلية وعداوة شديدة وضغائن وإحن طال بسببها قتالهم، والوقائع بينهم، فلما جاء الله بالإسلام.
فدخل فيه من دخل منهم، صاروا إخوانا متحابين بجلال الله، متواصلين في ذات الله، متعاونين على البر والتقوى وكانوا على شفا حفرة من النار بسبب كفرهم فأنقذهم الله منها إذ هداهم للإيمان وقد امتن عليهم بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم قسم غنائم حنين، فعتب من عتب منهم بما فضل عليهم في القسمة بما رآه، فخطبهم فقال يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي؟ فكانوا كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمنّ» .
وفي هذه الآية الكريمة تصوير بديع مؤثر لحالة المسلمين قبل الإسلام وحالتهم بعد الإسلام.
فقد صور- سبحانه- حالهم وترديهم في الكفر والاختلاف والتقاتل قبل أن يدخلوا في الإسلام بحال من يكون على حافة حفرة من النار يوشك أن يقع فيها.
وصور هدايته لهم إلى سبيل الحق والمحبة والإخاء بدخولهم في الإسلام عن طريق محمد صلّى الله عليه وسلّم بحالة من يبعد غيره عن الترديفي النار وينقذه من الوقوع فيها.
قال صاحب الكشاف: «والضمير المجرور في قوله فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها يعود للحفرة أو للنار أو للشفا، وإنما أنث لإضافته إلى الحفرة- فاكتسب التأنيث من المضاف إليه- كما قال: كما شرقت صدر القناة من الدم.
.
وشفا الحفرة وشفتها: حرفها بالتذكير والتأنيث.
فإن قلت: كيف جعلوا على حرف حفرة من النار؟ قلت: لو ماتوا على ما كانوا عليه وقعوا في النار «فمثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار بالقعود على حرفها، مشفين- أى مشرفين- على الوقوع فيها» .
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.
أى كهذا البيان الواضح الذي سمعتموه في هذه الآيات، يبين الله لكم دائما من آياته ودلائله وحججه ما يسعدكم في الدنيا والآخرة، وما يأخذ بيدكم إلى وسائل الهداية وأسبابها، رجاء أن تكونوا ممن رضى الله عنهم وأرضاهم بسبب اهتدائهم إلى الصراط المستقيم.

﴿ تفسير البغوي ﴾

قوله عز وجل : ( واعتصموا بحبل الله جميعا ) الحبل : السبب الذي [ يتوصل ] به إلى البغية وسمي الإيمان حبلا لأنه سبب يتوصل به إلى زوال الخوف .
واختلفوا في معناه هاهنا ، قال ابن عباس : معناه تمسكوا بدين الله ، وقال ابن مسعود : هو الجماعة ، وقال : عليكم بالجماعة فإنها حبل الله الذي أمر الله به ، وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة خير مما تحبون في الفرقة .
وقال مجاهد وعطاء : بعهد الله ، وقال قتادة والسدي : هو القرآن ، وروي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن هذا القرآن هو حبل الله وهو النور المبين ، والشفاء النافع ، وعصمة لمن تمسك به ونجاة لمن تبعه " وقال مقاتل بن حيان : بحبل الله : أي بأمر الله وطاعته ، ( ولا تفرقوا ) كما [ افترقت ] اليهود والنصارى ، أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله تعالى يرضى لكم ثلاثا ، ويسخط لكم ثلاثا يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا وأن تناصحوا من ولى الله أمركم ، ويسخط لكم : قيل وقال ، وإضاعة المال وكثرة السؤال " .
قوله تعالى : ( واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم ) قال محمد بن إسحاق بن يسار وغيره من أهل الأخبار : كانت الأوس والخزرج أخوين لأب وأم فوقعت بينهما عداوة بسبب قتيل ، فتطاولت تلك العداوة والحرب بينهم عشرين ومائة سنة إلى أن أطفأ الله عز وجل ذلك بالإسلام وألف [ بينهم ] برسوله محمد صلى الله عليه وسلم وكان سبب ألفتهم أن سويد بن الصامت أخا بني عمرو بن عوف وكان شريفا يسميه قومه الكامل لجلده ونسبه ، قدم مكة حاجا أو معتمرا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث وأمر بالدعوة ، فتصدى له حين سمع به ودعاه إلى الله عز وجل وإلى الإسلام فقال له سويد : فلعل الذي معك مثل الذي معي ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ وما الذي معك قال : مجلة لقمان يعني حكمته فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ] اعرضها علي فعرضها ، فقال : إن هذا لكلام حسن ، معي أفضل من هذا ، قرآن أنزله الله علي نورا وهدى فتلا عليه القرآن ودعاه إلى الإسلام فلم [ يبعد ] منه وقال : إن هذا [ لقول ] حسن ، ثم انصرف إلى المدينة فلم يلبث أن قتلته الخزرج قبل يوم بعاث فإن قومه ليقولون : قد قتل وهو مسلم .
ثم قدم أبو الحيسر أنس بن رافع ومعه فئة من بني الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قوم من الخزرج ، فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم فجلس إليهم ، فقال : هل لكم إلى خير مما جئتم له؟ فقالوا : وما ذلك؟ قال : أنا رسول الله بعثني إلى العباد أدعوهم إلى أن لا يشركوا بالله شيئا ، وأنزل علي الكتاب ، ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن ، فقال إياس بن معاذ وكان غلاما حدثا : أي قوم ، هذا والله خير مما جئتم له ، فأخذ أبو الحيسر حفنة من البطحاء فضرب بها وجه إياس وقال : دعنا منك فلعمري لقد جئنا لغير هذا ، فصمت إياس وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم ، وانصرفوا إلى المدينة وكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج ، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك .
فلما أراد الله عز وجل إظهار دينه وإعزاز نبيه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار يعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم ، فلقي عند العقبة رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا ، وهم ستة نفر : أسعد بن زرارة ، وعوف بن الحارث وهو ابن عفراء ، ورافع بن مالك العجلاني ، وقطبة بن عامر بن حديدة ، وعقبة بن عامر بن نابي ، وجابر بن عبد الله ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أنتم؟ قالوا : نفر من الخزرج ، قال : أمن موالي يهود؟ قالوا : نعم : قال : أفلا تجلسون حتى أكلمكم؟ قالوا : بلى ، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن .
قالوا : وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام أن يهود كانوا معهم ببلادهم ، وكانوا أهل كتاب وعلم ، وهم كانوا أهل أوثان وشرك ، وكانوا إذا كان منهم شيء قالوا : إن نبيا الآن مبعوث قد أظل زمانه نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم ، فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله عز وجل قال بعضهم لبعض : يا قوم تعلمون والله إنه النبي الذي توعدكم به يهود ، فلا يسبقنكم إليه ، فأجابوه وصدقوه وأسلموا ، وقالوا : إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم وعسى الله أن يجمعهم بك ، وسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك .
ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم قد آمنوا به صلى الله عليه وسلم ، فلما قدموا المدينة ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا وهم : أسعد بن زرارة ، وعوف ، ومعاذ ابنا عفراء ، ورافع بن مالك بن العجلان ، وذكوان بن عبد القيس ، وعبادة بن الصامت ، ويزيد بن ثعلبة ، وعباس بن عبادة ، وعقبة ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌بن عامر ، وقطبة بن عامر ، وهؤلاء خزرجيون وأبو الهيثم بن التيهان ، وعويمر بن ساعدة من الأوس ، فلقوه بالعقبة وهي العقبة الأولى ، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء ، على أن لا يشركوا بالله شيئا ولا يسرقوا ولا يزنوا ، إلى آخر الآية فإن وفيتم فلكم الجنة ، وإن غشيتم شيئا من ذلك فأخذتم بحده في الدنيا فهو كفارة له ، وإن ستر عليكم فأمركم إلى الله إن شاء عذبكم وإن شاء غفر لكم ، قال : وذلك قبل أن يفرض عليهم الحرب .
قال : فلما انصرف القوم بعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف ، وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين ، وكان مصعب يسمى بالمدينة المقرئ ، وكان منزله على أسعد بن زرارة ، ثم إن أسعد بن زرارة خرج بمصعب فدخل به حائطا ، من حوائط بني ظفر ، فجلسا في الحائط واجتمع إليهما رجال ممن أسلم ، فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير : انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارنا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما ، فإن أسعد بن زرارة ابن خالتي ولولا ذاك لكفيتكه ، وكان سعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيدي قومهما من بني عبد الأشهل وهما مشركان ، فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إلى مصعب وأسعد وهما جالسان في الحائط ، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب : هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه ، قال مصعب : إن يجلس أكلمه قال : فوقف عليهما متشتما فقال : ما جاء بكم إلينا تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلا إن كانت لكما في أنفسكما حاجة ، فقال له مصعب : أو تجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته كف عنك ما تكره ، قال : أنصفت ثم ركز حربته وجلس إليهما فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن فقالا والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم به ، في إشراقه وتسهله ، ثم قال : ما أحسن هذا الكلام وأجمله ! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له : تغتسل وتطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق [ ثم تصلي ركعتين فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وشهد شهادة الحق ] ثم قام وركع ركعتين ثم قال لهما : إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما الآن ، سعد بن معاذ ، ثم أخذ حربته فانصرف إلى سعد وقومه ، وهم جلوس في ناديهم فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا قال : أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب من عندكم ، فلما وقف على النادي قال له سعد : ما فعلت؟ قال : كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسا وقد نهيتهما فقالا فافعل ما أحببت ، وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه ، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليحقروك فقام سعد [ مغضبا ] مبادرا للذي ذكر له من بني حارثة ، فأخذ الحربة ثم قال : والله ما أراك أغنيت شيئا فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدا إنما أراد أن يسمع منهما فوقف عليهما متشتما ثم قال لأسعد بن زرارة : لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني ، تغشانا في دارنا بما نكره وقد قال أسعد لمصعب : جاءك والله سيد قومه ، إن يتبعك لم يخالفك منهم أحد ، فقال له مصعب : أو تقعد فتسمع فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته ، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره ، قال سعد : أنصفت ، ثم ركز الحربة وجلس ، فعرض عليه الإسلام وقرأ عليه القرآن قالا : فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم به في إشراقه وتسهله ، ثم قال لهما : كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا تغتسل وتطهر ثوبيك ، ثم تشهد شهادة الحق ثم [ تصلي ] ركعتين فقام واغتسل وطهر ثوبيه وشهد شهادة الحق وركع ركعتين ، ثم أخذ حربته فأقبل عامدا إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير فلما رآه قومه مقبلا قالوا : نحلف بالله لقد رجع سعد إليكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم ، فلما وقف عليهم قال : يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا : سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة قال : فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله ، قال : فما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلم أو مسلمة ، ورجع أسعد بن زرارة ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة ، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال مسلمون ونساء مسلمات إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف ، وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت الشاعر ، وكانوا يسمعون منه ويطيعونه فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق .
قالوا : ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة وخرج معه من الأنصار من المسلمين سبعون رجلا مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق وهي بيعة العقبة الثانية .
قال كعب بن مالك - وكان قد شهد ذلك - فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر أخبرناه وكنا نكتم عمن معنا من المشركين من قومنا أمرنا فكلمناه ، وقلنا له : يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا ، ودعوناه إلى الإسلام فأسلم ، وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد معنا العقبة ، وكان نقيبا ، فبتنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل مستخفين تسلل القطا ، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ، ونحن سبعون رجلا ومعنا امرأتان من نسائنا نسيبة بنت كعب أم عمارة إحدى نساء بني النجار ، وأسماء بنت عمرو بن عدي أم منيع إحدى نساء بني سلمة ، فاجتمعنا بالشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب ، وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ، ويتوثق له ، فلما جلسنا كان أول من تكلم العباس بن عبد المطلب ، فقال : يا معشر الخزرج - وكانت العرب يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج خزرجها وأوسها - إن محمدا صلى الله عليه وسلم منا حيث قد علمتم ، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا وهو في عز من قومه ومنعة في بلده ، وأنه قد أبى إلا الانقطاع إليكم واللحوق بكم ، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك ، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه فإنه في عز ومنعة .
قال : فقلنا قد سمعنا ما قلت : فتكلم يا رسول الله وخذ لنفسك ولربك ما شئت .
قال : فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الإسلام ، ثم قال أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه [ أنفسكم ونساءكم ] وأبناءكم ، قال : فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال : والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله ، فنحن أهل الحرب وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر .
قال : [ فاعترض ] القول - والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم - أبو الهيثم بن التيهان ، فقال : يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبالا يعني العهود ، وإنا قاطعوها فهل عسيت إن فعلنا نحن ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : الدم الدم والهدم الهدم أنتم مني وأنا منكم أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا كفلاء على قومهم بما فيهم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم " فأخرجوا اثني عشر نقيبا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس .
قال عاصم بن عمرو بن قتادة : إن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري : يا معشر الخزرج هل تدرون علاما تبايعون هذا الرجل؟ إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود ، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلى أسلمتموه ، فمن الآن ، فهو والله إن فعلتم خزي في الدنيا والآخرة ، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه من تهلكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة .
قالوا : فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف ، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟ قال : " الجنة " قال : ابسط يدك فبسط يده فبايعوه ، وأول من ضرب على يده البراء بن معرور ثم تتابع القوم ، فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت ما سمعته قط : يا أهل الجباجب هل لكم في مذمم والصباة قد اجتمعوا على حربكم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا عدو الله ، هذا أزب العقبة ، اسمع أي عدو الله أما والله لأفرغن لك ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ارفعوا إلى رحالكم .
فقال العباس بن عبادة بن نضلة : والذي بعثك بالحق لئن شئت [ لنميلن ] غدا على أهل منى بأسيافنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم نؤمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم .
قال فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاءونا في منازلنا ، فقالوا : يا معشر الخزرج بلغنا أنكم جئتم صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا ، وإنه والله ما حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم [ منكم ] قال : فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون لهم بالله : ما كان من هذا شيء وما علمناه وصدقوا ، ولم يعلموا ، وبعضنا ينظر إلى بعض ، وقام القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة [ المخزومي ] وعليه نعلان جديدان ، قال فقلت له كلمة كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا يا جابر أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من ساداتنا مثل نعلي هذا الفتى من قريش ، قال فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه ثم رمى بهما إلي وقال : والله لتنتعلنهما قال يقول أبو جابر رضي الله عنه : مه والله أحفظت الفتى فاردد إليه نعليه ، قال : لا أردهما فأل - والله - صالح والله لئن صدق الفأل [ لأسلبنه ] .
قال : ثم انصرف الأنصار إلى المدينة وقد شددوا العقد ، فلما قدموها أظهروا الإسلام بها وبلغ ذلك قريشا فآذوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " إن الله تعالى قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون فيها " فأمرهم بالهجرة إلى المدينة واللحوق بإخوانهم من الأنصار .
فأول من هاجر إلى المدينة أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي ، ثم عامر بن ربيعة ثم عبد الله بن جحش ثم تتابع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالا إلى المدينة فجمع الله أهل المدينة أوسها وخزرجها بالإسلام ، وأصلح ذات بينهم بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم .
قال الله تعالى : ( واذكروا نعمة الله عليكم ) يا معشر الأنصار ( إذ كنتم أعداء ) قبل الإسلام ( فألف بين قلوبكم ) بالإسلام ، ( فأصبحتم ) أي فصرتم ، ( بنعمته ) برحمته وبدينه الإسلام ، ( إخوانا ) في الدين والولاية بينكم ( وكنتم ) يا معشر الأوس والخزرج ( على شفا حفرة من النار ) أي على طرف حفرة مثل شفا البئر معناه : كنتم على طرف حفرة من النار ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على كفركم ، ( فأنقذكم ) الله ( منها ) بالإيمان ، ( كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ) .

قراءة سورة آل عمران

المصدر : واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم