﴿ لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ﴾
﴿ تفسير السعدي ﴾
يخبر تعالى ويخاطب المؤمنين أنهم سيبتلون في أموالهم من النفقات الواجبة والمستحبة، ومن التعريض لإتلافها في سبيل الله، وفي أنفسهم من التكليف بأعباء التكاليف الثقيلة على كثير من الناس، كالجهاد في سبيل الله، والتعرض فيه للتعب والقتل والأسر والجراح، وكالأمراض التي تصيبه في نفسه، أو فيمن يحب. ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، ومن الذين أشركوا أذى كثيرا من الطعن فيكم، وفي دينكم وكتابكم ورسولكم. وفي إخباره لعباده المؤمنين بذلك، عدة فوائد: منها: أن حكمته تعالى تقتضي ذلك، ليتميز المؤمن الصادق من غيره. ومنها: أنه تعالى يقدر عليهم هذه الأمور، لما يريده بهم من الخير ليعلي درجاتهم، ويكفر من سيئاتهم، وليزداد بذلك إيمانهم، ويتم به إيقانهم، فإنه إذا أخبرهم بذلك ووقع كما أخبر قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ومنها: أنه أخبرهم بذلك لتتوطن نفوسهم على وقوع ذلك، والصبر عليه إذا وقع؛ لأنهم قد استعدوا لوقوعه، فيهون عليهم حمله، وتخف عليهم مؤنته، ويلجأون إلى الصبر والتقوى، ولهذا قال: وإن تصبروا وتتقوا أي: إن تصبروا على ما نالكم في أموالكم وأنفسكم، من الابتلاء والامتحان وعلى أذية الظالمين، وتتقوا الله في ذلك الصبر بأن تنووا به وجه الله والتقرب إليه، ولم تتعدوا في صبركم الحد الشرعي من الصبر في موضع لا يحل لكم فيه الاحتمال، بل وظيفتكم فيه الانتقام من أعداء الله. فإن ذلك من عزم الأمور أي: من الأمور التي يعزم عليها، وينافس فيها، ولا يوفق لها إلا أهل العزائم والهمم العالية كما قال تعالى: وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ثم بين - سبحانه - للمؤمنين أنهم سيتعرضون فى المستقبل للمحن والآلام كما تعرضوا لذلك فى أيامهم الماضية ، وأن من الواجب عليهم أن يتقبلوا ذلك بعزيمة صادقة ، وصبر جميل فقال - تعالى - : لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً .وقوله لَتُبْلَوُنَّ جواب قسم محذوف أى : والله لتبلون أى لتختبرن . والمراد لتعاملن معاملة المختبر والممتحن ليظهر ما عندكم من الثبات على الحق ، ومن التمسك بمكارم الأخلاق ، فإن المصائب محك الرجال .وإنما أخبرهم - سبحانه - بما سيقع لهم من بلاء ، ليوطنوا أنفسهم على احتماله عند وقوعه ، وليستعدوا لتلقيه من غير فزع أو جزع ، فإن الشدة المتوقعة يسهل احتمالها ، أما الشدة التى تقع من غير توقع فإنها يصعب احتمالها .والمعنى : لتبلون - أيها المؤمنون - ولتختبرن في أَمْوَالِكُمْ بما يصيبها من الآفات ، وبما تطالبون به من إنفاق فى سبيل إعلاء كلمة الله ، ولتختبرن أيضاً فى أَنْفُسِكُمْ بسبب ما يصيبكم من جراح وآلام من قبل أعدائكم ، وبسبب ما تتعرضون له من حروب ومتاعب وشدائد ، وفضلا عن ذلك فإنكم وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وهم اليهود والنصارى وَمِنَ الذين أشركوا وهم كفار العرب ، لتسمعن من هؤلاء جميعا أَذًى كَثِيراً كالطعن فى دينكم ، والاستهزاء بعقيدتكم ، والسخرية من شريعتكم والاستخفاف بالتعاليم التى أتاكم بها نبيكم ، والتفنن فيما يضركم .وقد رتب - سبحانه - ما يصيب المؤمنين ترتيبا تدريجيا ، فابتدأ بأدتى ألوان البلاء وهو الإصابة فى المال ، فإنها مع شدتها وقسوتها على الإنسان إلا أنها أهون من الإصابة فى النفس لأنها أغلى من المال ، ثم ختم ألوان الابتلاء ببيان الدرجة العليا منه وهى التى تختص بالإصابة فى الدين ، وقد عبر عنها بقوله : وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً .وإنما كانت الإصابة فى الدين أعلى أنواع البلاء ، لأن المؤمن الصادق يهون عليه ماله ، وتهون عليه نفسه ، ولكنه لا يهون عليه دينه ، ويسهل عليه أن يتحمل الأذى فى ماله ونفسه ولكن ليس من السهل عليه أن يؤذى فى دينه . . .ولقد كان أبو بكر الصديق مشهورا بلينه ورفقه . ولكنه مع ذلك - لقوة إيمانه - لم يحتمل من " فنحاص " اليهودى أن يصف الخالق - عز وجل - بأنه فقير ، فما كان من الصديق إلا أن شجَّ وجه فنحاص عندما قال ذلك القول الباطل .وقد جمع - سبحانه - بين أهل الكتاب وبين المشركين فى عداوتهم وإيذائهم للمؤمنين ، للإشعار بأن الكفر ملة واحدة ، وأن العالم بالكتاب والجاهل به يستويان فى معاداتهم للحق ، لأن العناد إذا استولى على القلوب زاد الجاهلين جهلا وحمقا ، وزاد العالمين حقداً وحسداً .ثم أرشد - سبحانه - المؤمنين إلى العلاج الذى يعين على التغلب على هذا البلاء فقال : وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور .أى : وإن تصبروا على تلك الشدائد ، وتقابلوها يضبط النفس ، وقوة الاحتمال . وَتَتَّقُواْ الله فى كل ما أمركم به ونهاكم عنه ، تنالوا رضاه - سبحانه - وتنجوا من كيد أعدائكم .والإشارة فى قوله فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور تعود إلى المذكور ضمنا من الصبر والتقوى ، أى فإن صبركم وتقواكم من الأمور التى يجب أن يسير عليها كل عاقل . لأنها تؤدى إلى النجاح والظفر .وقوله فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور دليل على جواب الشرط .والتقدير : وإن تصبروا وتتقوا تنالوا ثواب أ÷ل العزم فإن ذلك من عزم الأمور .فالآية الكريمة استئناف مسوق لإيقاظ المؤمنين ، وتنبيههم إلى سنة من سنن الحياة ، وهى أن أهل الحق لا بد من أن يتعرضوا للابتلاء والامتحان ، فعليهم أن يوطنوا أنفسهم على تحمل كل ذلك ، لأن ضعفاء العزيمة ليسوا أهلا لبلوغ النصر .ولقد بين النبى صلى الله عليه وسلم أن قوة الإيمان وشدة البلاء متلازمان ، فقد روى الترمذى عن مصعب بن سعد عن أبيه قال : قلت يا رسول الله ، أى الناس أشد بلاء؟ قال : الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل . فيبتلى الرجل على حسب دينه . فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه ، وإن كان فى دينه رقة ابتلى على حسب دينه ، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض ما عليه خطيئة " .
﴿ تفسير البغوي ﴾
( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ) الآية قال عكرمة ومقاتل والكلبي وابن جريج : نزلت الآية في أبي بكر وفنحاص بن عازوراء . وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر إلى فنحاص بن عازوراء سيد بني قينقاع ليستمده ، وكتب إليه كتابا وقال لأبي بكر رضي الله عنه " لا تفتاتن علي بشيء حتى ترجع " فجاء أبو بكر رضي الله عنه وهو متوشح بالسيف فأعطاه الكتاب فلما قرأه قال : قد احتاج ربك إلى أن نمده ، فهم أبو بكر رضي الله عنه أن يضربه بالسيف ثم ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تفتاتن علي بشيء حتى ترجع " فكف فنزلت هذه الآية .وقال الزهري : نزلت في كعب بن الأشرف فإنه كان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسب المسلمين ، ويحرض المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في شعره ويشبب بنساء المسلمين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " من لي بابن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله " ؟ .فقال محمد بن مسلمة الأنصاري : أنا لك يا رسول الله ، أنا أقتله قال : " فافعل إن قدرت على ذلك " .فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثا لا يأكل ولا يشرب إلا ما تعلق نفسه ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه وقال له : لم تركت الطعام والشراب؟ قال : يا رسول الله قلت قولا ولا أدري هل أفي به أم لا فقال : إنما عليك الجهد .فقال : يا رسول الله إنه لا بد لنا من أن نقول قال : قولوا ما بدا لكم فأنتم في حل من ذلك ، فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة وسلكان بن سلام وأبو نائلة ، وكان أخا كعب من الرضاعة ، وعباد بن بشر والحارث بن أوس وأبو عيسى بن جبير فمشى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد ثم وجههم ، وقال : " انطلقوا على اسم الله اللهم أعنهم " ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك في ليلة مقمرة .فأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه فقدموا أبا نائلة فجاءه فتحدث معه ساعة وتناشدا الشعر ، وكان أبو نائلة يقول الشعر ، ثم قال : ويحك يا ابن الأشرف إني قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك فاكتم علي قال أفعل قال : كان قدوم هذا الرجل بلادنا بلاء عادتنا العرب ورمونا عن قوس واحدة ، وانقطعت عنا السبل حتى ضاعت العيال وجهدت الأنفس ، فقال كعب : أنا ابن الأشرف أما والله لقد كنت أخبرتك يا ابن سلامة أن الأمر سيصير إلى هذا ، فقال أبو نائلة : إن معي أصحابا أردنا أن تبيعنا طعامك ونرهنك ونوثق لك وتحسن في ذلك قال : أترهنوني أبناءكم قال : إنا نستحي إن يعير أبناؤنا فيقال هذا رهينة وسق وهذا رهينة وسقين قال : ترهنوني نساءكم قالوا : كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب ولا نأمنك وأية امرأة تمتنع منك لجمالك؟ ولكنا نرهنك الحلقة يعني : السلاح وقد علمت حاجتنا إلى السلاح ، قال : نعم وأراد أبو نائلة أن لا ينكر السلاح إذا رآه فوعده أن يأتيه فرجع أبو نائلة إلى أصحابه فأخبرهم خبره .فأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه ليلا فهتف به أبو نائلة وكان حديث عهد بعرس ، فوثب من ملحفته فقالت امرأته : أسمع صوتا يقطر منه الدم ، وإنك رجل محارب وإن صاحب الحرب لا ينزل في مثل هذه الساعة فكلمهم من فوق الحصن فقال : إنما هو أخي محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة وإن هؤلاء لو وجدوني نائما ما أيقظوني ، وإن الكريم إذا دعي إلى طعنة بليل أجاب ، فنزل إليهم فتحدث معهم ساعة ثم قالوا : يا ابن الأشرف هل لك إلى أن نتماشى إلى شعب العجوز نتحدث فيه بقية ليلتنا هذه؟ قال : إن شئتم؟ فخرجوا يتماشون وكان أبو نائلة قال : لأصحابه إني فاتل شعره فأشمه فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه ، ثم إنه شام يده في فود رأسه ثم شم يده فقال : ما رأيت كالليلة طيب عروس قط ، قال : إنه طيب أم فلان يعني امرأته ، ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها حتى اطمأن ثم مشى ساعة فعاد لمثلها ثم أخذ بفودي رأسه حتى استمكن ثم قال : اضربوا عدو الله فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئا قال محمد بن مسلمة فذكرت مغولا في سيفي فأخذته وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلا أوقدت عليه نار ، قال فوضعته في ثندوته ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته ووقع عدو الله ، وقد أصيب الحارث بن أوس بجرح في رأسه أصابه بعض أسيافنا ، فخرجنا وقد أبطأ علينا صاحبنا الحارث ونزفه الدم ، فوقفنا له ساعة ثم أتانا يتبع آثارنا فاحتملناه فجئنا به رسول الله آخر الليل وهو قائم يصلي فسلمنا عليه فخرج إلينا فأخبرناه بقتل كعب وجئنا برأسه إليه وتفل على جرح صاحبنا .فرجعنا إلى أهلنا فأصبحنا وقد خافت يهود وقعتنا بعدو الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه " فوثب محيصة بن مسعود على سنينة رجل من تجار اليهود كان يلابسهم ويبايعهم فقتله وكان حويصة بن مسعود إذ ذاك لم يسلم وكان أسن من محيصة فلما قتله جعل حويصة يضربه ويقول : أي عدو الله قتلته أما والله لرب شحم في بطنك من ماله .قال محيصة : والله لو أمرني بقتلك من أمرني بقتله لضربت عنقك ، قال : لو أمرك محمد بقتلي لقتلتني؟ قال : نعم قال والله إن دينا بلغ بك هذا لعجب؟ ! فأسلم حويصة وأنزل الله تعالى في شأن كعب : ( لتبلون ) لتخبرن اللام للتأكيد وفيه معنى القسم ، والنون لتأكيد القسم ( في أموالكم ) بالجوائح والعاهات والخسران ( وأنفسكم ) بالأمراض وقيل : بمصائب الأقارب والعشائر ، قال عطاء : هم المهاجرون أخذ المشركون أموالهم ورباعهم وعذبوهم وقال الحسن : هو ما فرض عليهم في أموالهم وأنفسهم من الحقوق ، كالصلاة والصيام والحج والجهاد والزكاة ، ( ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) يعني : اليهود والنصارى ، ( ومن الذين أشركوا ) يعني : مشركي العرب ، ( أذى كثيرا وإن تصبروا ) على أذاهم ( وتتقوا ) الله ، ( فإن ذلك من عزم الأمور ) من حق الأمور وخيرها وقال عطاء : من حقيقة الإيمان .