﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ﴾
﴿ تفسير السعدي ﴾
فمنذ قالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ الآية، علم بمجرد قولهم أنهم السفهاء الأغبياء، الجهلة الظالمون، فلو عاجلهم اللّه بالعقاب لما أبقى منهم باقية، ولكنه تعالى دفع عنهم العذاب بسبب وجود الرسول بين أظهرهم، فقال: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ فوجوده صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم أمنة لهم من العذاب. وكانوا مع قولهم هذه المقالة التي يظهرونها على رءوس الأشهاد، يدرون بقبحها، فكانوا يخافون من وقوعها فيهم، فيستغفرون اللّه [تعالى فلهذا] قال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ثم تعقب السورة على هذا الدعاء الغريب الذي حكته عن مشركي مكة، فتبين الموجب لإمهالهم وعدم إجابة دعائهم فتقول: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ، وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.أى: وما كان الله مريدا لتعذيب هؤلاء الذين دعوا بهذا الدعاء الغريب تعذيب استئصال وإهلاك، وأنت مقيم فيهم- يا محمد- بمكة، فقد جرت سنته- سبحانه- ألا يهلك قرية مكذبة وفيها نبيها والمؤمنون به حتى يخرجهم منها ثم يعذب الكافرين.واللام في قوله لِيُعَذِّبَهُمْ لتأكيد النفي، وللدلالة على أن تعذيبهم والرسول صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم غير مستقيم في الحكمة.والمراد بالاستغفار في قوله: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ استغفار من بقي بينهم من المؤمنين المستضعفين الذين لم يستطيعوا مغادرة مكة بعد أن هاجر منها النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون.أى: ما كان الله مريدا لتعذيبهم وأنت فيهم- يا محمد- وما كان- أيضا- مريدا تعذيبهم وبين أظهرهم بمكة من المؤمنين المستضعفين من يستغفر الله، وهم الذين لم يستطيعوا مغادرتها واللحاق بك في المدينة.قالوا: ويؤيد أن هذا هو المراد بالاستغفار قوله- تعالى- في آية أخرى: لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً أى: لو تميز المؤمنون عن الكافرين لعذبنا الذين كفروا عذابا أليما.وأسند- سبحانه- الاستغفار إلى ضمير الجميع، لوقوعه فيما بينهم، ولتنزيل ما صدر عن البعض منزلة ما صدر عن الكل. كما يقال: قتل أهل بلدة كذا فلانا والمراد بعضهم.ويرى بعضهم أن المراد بالاستغفار المذكور: استغفار الكفرة أنفسهم كقولهم: غفرانك.في طوافهم بالبيت، أو ما يشبه ذلك من معاني الاستغفار وكأن هذا البعض يرى أن مجرد طلب المغفرة منه- سبحانه- يكون مانعا من عذابه ولو كان هذا الطلب صادرا من الكفرة.ويرجح ابن جرير أن المراد بقوله: وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ نفى الاستغفار عنهم فقد قال بعد أن ذكر بضعة آراء: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: تأويله وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم يا محمد، وبين أظهرهم مقيم، حتى أخرجك من بين أظهرهم، لأنى لا أهلك قرية وفيها نبيها، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون من ذنوبهم وكفرهم، ولكنهم لا يستغفرون من ذلك بل هم مصرون عليه، فهم للعذاب مستحقون ... » .قال بعض المحققين: والقول الأول أبلغ لدلالته على أن استغفار الغير مما يدفع به العذاب عن أمثال هؤلاء الكفرة.ثم قال: روى الترمذي عن أبى موسى الأشعرى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل الله على أمانين لأمتى «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ ... » الآية. فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة» .قال ابن كثير: ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد والحاكم وصححه عن أبى سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن إبليس قال لربه: بعزتك وجلالك لا أبرح أغوى بنى آدم ما دامت الأرواح فيهم. فقال الله- تعالى- فبعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفرونى» .
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله تعالى : ( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ) اختلفوا في معنى هذه الآية ، فقال محمد بن إسحاق : هذا حكاية عن المشركين أنهم قالوها وهي متصلة بالآية الأولى ، وذلك أنهم كانوا يقولون : إن الله لا يعذبنا ونحن نستغفره ، ولا يعذب أمة ونبيها معها ، فقال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - يذكر جهالتهم وغرتهم واستفتاحهم على أنفسهم : " وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك " الآية ، وقالوا " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " ثم قال ردا عليهم : " وما لهم ألا يعذبهم الله " ؟ وإن كنت بين أظهرهم وإن كانوا يستغفرون " وهم يصدون عن المسجد الحرام " .وقال الآخرون : هذا كلام مستأنف يقول الله - عز وجل - إخبارا عن نفسه : " وما كان الله ليعذبهم " .واختلفوا في تأويلها ، فقال الضحاك وجماعة : تأويلها وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم مقيم بين أظهرهم ، قالوا : أنزلت هذه الآية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مقيم بمكة ، ثم خرج من بين أظهرهم وبقيت بها بقية من المسلمين يستغفرون ، فأنزل الله تعالى : " وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " ، ثم خرج أولئك من بينهم فعذبوا ، وأذن الله في فتح مكة ، فهو العذاب الذي وعدهم .قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لم يعذب الله قرية حتى يخرج النبي منها والذين آمنوا ويلحق بحيث أمر . فقال : " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " يعني المسلمين فلما خرجوا قال الله تعالى : " وما لهم ألا يعذبهم الله " ، فعذبهم الله يوم بدر .وقال أبو موسى الأشعري : كان فيكم أمانان " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " ، " وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " فأما النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد مضى والاستغفار كائن فيكم إلى يوم القيامة .وقال بعضهم : هذا الاستغفار راجع إلى المشركين وذلك أنهم كانوا يقولون بعد الطواف : غفرانك غفرانك .وقال يزيد بن رومان : قالت قريش إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ، فلما أمسوا ندموا على ما قالوا ، فقالوا غفرانك اللهم ، فقال الله - عز وجل - " وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " .وقال قتادة والسدي : معناه : وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ، أي : لو استغفروا ، ولكنهم لم يكونوا يستغفرون ، ولو أنهم أقروا بالذنب ، واستغفروا ، لكانوا مؤمنين .وقيل : هذا دعاء إلى الإسلام والاستغفار بهذه الكلمة ، كالرجل يقول لغيره لا أعاقبك وأنت تطيعني ، أي أطعني حتى لا أعاقبك .وقال مجاهد وعكرمة : وهم يستغفرون أي يسلمون . يقول : لو أسلموا لما عذبوا . وروى الوالبي عن ابن عباس : أي وفيهم من سبق له من الله أن يسلم ويؤمن ويستغفر وذلك مثل : أبي سفيان ، وصفوان بن أمية ، وعكرمة بن أبي جهل ، وسهيل بن عمرو ، وحكيم بن حزام وغيرهم .وروى عبد الوهاب عن مجاهد : وهم يستغفرون أي وفي أصلابهم من يستغفر .