﴿ فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ﴾
﴿ تفسير السعدي ﴾
المراد بالمنافقين المذكورين في هذه الآيات: المنافقون المظهرون إسلامهم، ولم يهاجروا مع كفرهم، وكان قد وقع بين الصحابة رضوان الله عليهم فيهم اشتباه، فبعضهم تحرج عن قتالهم، وقطع موالاتهم بسبب ما أظهروه من الإيمان، وبعضهم علم أحوالهم بقرائن أفعالهم فحكم بكفرهم.
﴿ تفسير الوسيط ﴾
أورد المفسرون في سبب نزول قوله- تعالى- فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ روايات أهمها روايتان:أولهما: أن هذه الآية نزلت في شأن المنافقين الذين تخلفوا عن الاشتراك مع المؤمنين في غزوة أحد. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد ومعه المسلمون. وفي الطريق رجع عبد الله بن أبى بن سلول بثلث الناس وقالوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ فاختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في شأن هؤلاء المنافقين. فقال بعضهم: نقتلهم فقد كفروا.وقال آخرون: لم يكفروا. فأنزل الله- تعالى- الآية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنها طيبة وإنها تنفى الخبث كما ينفى الكير خبث الحديد) :أما الرواية الثانية: فيؤخذ منها أنها نزلت في قوم كانوا يظهرون الإسلام بمكة إلا أنهم كانوا يظاهرون المشركين. فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس أن قوما كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام وكانوا يظاهرون المشركين، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم. فقالوا: إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس. وإن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة، قالت فئة من المؤمنين: اركبوا إلى هؤلاء الخبثاء فاقتلوهم، فإنهم يظاهرون عدوكم. وقالت فئة أخرى من المؤمنين: سبحان الله: - أو كما قالوا- أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به؟ أمن أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم تستحل دماؤهم وأموالهم؟ فكانوا كذلك فئتين والرسول صلى الله عليه وسلم عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شيء، فنزلت: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ.وهناك روايات أخرى قريبة من هذه الرواية في معناها قد ذكرها المفسرون .ويبدو لنا أن الرواية الثانية هي الأقرب إلى سياق الآيات وإلى الواقع التاريخى، لأنه من الثابت تاريخيا أن منافقي المدينة لم يرد أمر بقتالهم، وإنما استعمل معهم الرسول صلى الله عليه وسلم وسائل أخرى أدت إلى نبذهم وهوان أمرهم، ولأن قوله- تعالى- بعد ذلك فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا يؤيد أنه ليس المقصود بالمنافقين هنا منافقي المدينة، وإنما المقصود بهم جماعة أخرى من المنافقين كانوا خارج المدينة، إذ لا هجرة من المدينة إلى غيرها وإنما الهجرة تكون من غيرها إليها، لأنها دار الإسلام، ولم يكن فتح مكة قد تم عند نزول هذه الآية.وقد رجح الإمام ابن جرير سبب النزول الذي حكته الرواية الثانية فقال ما ملخصه: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله في قوم كانوا قد ارتدوا عن الإسلام بعد إسلامهم من أهل مكة. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لأن قوله- تعالى- بعد ذلك فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا أوضح دليل على أنهم كانوا من غير أهل المدينة، لأن الهجرة كانت على عهد رسول الله إلى داره ومدينته من سائر أرض الكفر. فأما من كان من المدينة في دار الهجرة مقيما من المنافقين وأهل الشرك فلم يكن عليه فرض هجرة.والفاء في قوله فَما لَكُمْ للتفريع على ما تقدم من أخبار المنافقين وأحوالهم أو هي للإفصاح و «ما» مبتدأ و «لكم» خبره.قال الجمل: وقوله «في المنافقين» فيه ثلاثة أوجه:أحدها: أنه متعلق بما تعلق به الخبر وهو «لكم» أى: أى شيء كائن لكم أو مستقر لكم في أمر المنافقين.والثاني: أنه متعلق بمعنى فئتين، فإنه لي قوة: ما لكم تفترقون في أمر المنافقين فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.والثالث: أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من فئتين، لأنه في الأصل صفة لها تقديره:فئتين مفترقتين في المنافقين وصفة النكرة إذا تقدمت عليها انتصبت حالا. وقوله «فئتين» حال من ضمير «لكم» المجرور والعامل فيه الاستقرار أو الظرف لنيابته عنه ... .والاستفهام لإنكار خلافهم في شأن المنافقين ولوم المؤمنين الذين أحسنوا الظن بالمنافقين مع أن أحوال هؤلاء المنافقين تدعو إلى سوء الظن بهم.والمعنى: لقد سقت لكم- أيها المؤمنون- من أحوال المنافقين ما يكشف عن خبثهم ومكرهم، وبينت لكم من صفاتهم ما يدعو إلى الحذر منهم وسوء الظن بهم، وإذا كان هذا هو حالهم فما الذي سوغ لكم أن تختلفوا في شأنهم إلى فئتين؟ فئة تحسن الظن بهم وتدافع عنهم، وفئة أخرى صادقة الفراسة، سليمة الحكم لأنها عند ما رأت الشر قد استحوذ على المنافقين أعرضت عنهم، واحتقرتهم، وأخذت حذرها منهم، وحكمت عليهم بالحكم الذي رضيه الله- تعالى.والآن- أيها المؤمنون- بعد أن ظهر الحق، وانكشف حال أولئك المنافقين، عليكم أن تتركوا الخلاف في شأنهم، وأن تتفقوا جميعا على أنهم قوم بعيدون عن الحق والإيمان.ومنغمسون في الضلال والبطلان.وقوله وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا حال من المنافقين مفيد لتأكيد الإنكار السابق أى: لم تختلفون- أيها المؤمنون- في شأن المنافقين هذا الاختلاف والحال أن الله- تعالى- قد ردهم إلى الكفر بعد الإيمان بسبب أقوالهم الأثيمة، وأعمالهم القبيحة.وقوله أَرْكَسَهُمْ من الركس وهو رد أول الشيء على آخره. يقال: ركس الشيء يركسه ركسا إذا قلبه على رأسه. والركس والنكس بمعنى واحد.والاستفهام في قوله أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ للإنكار على من أحسن الظن بأولئك المنافقين.أى: أتريدون أيها المؤمنون الذين أحسنتم الظن بهؤلاء المنافقين أن تعدوهم من جملة المهتدين، مع أن الله- تعالى- قد خلق فيهم الضلال، لأنهم قد استحبوا العمى على الهدى، وآثروا الغي على الرشد.وقوله وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا أى: ومن يكتب الله عليه الضلالة، فلن تجد أحدا يهديه ويرشده، لأن قضاء الله لا يتبدل، وقدره لا يتخلف.
﴿ تفسير البغوي ﴾
( فما لكم في المنافقين فئتين ) اختلفوا في سبب نزولها فقال قوم : نزلت في الذين تخلفوا يوم أحد من المنافقين ، فلما رجعوا قال بعض الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم : اقتلهم فإنهم منافقون ، وقال بعضهم : اعف عنهم فإنهم تكلموا بالإسلام .أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا أبو الوليد ، أنا شعبة ، عن عدي بن ثابت ، قال : سمعت عبد الله بن يزيد ، يحدث عن زيد بن ثابت ، قال : لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد رجع ناس ممن خرج معه وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرقتين ، فرقة تقول نقاتلهم وفرقة تقول لا نقاتلهم ، فنزلت : ( فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا ) وقال : " إنها طيبة تنفي الذنوب كما تنفي النار خبث الفضة " .وقال مجاهد : قوم خرجوا إلى المدينة وأسلموا ثم ارتدوا واستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها فخرجوا وأقاموا بمكة ، فاختلف المسلمون فيهم ، فقائل يقول : هم منافقون ، وقائل يقول : هم مؤمنون .وقال بعضهم : نزلت في ناس من قريش قدموا المدينة وأسلموا ثم ندموا على ذلك فخرجوا كهيئة المتنزهين حتى باعدوا من المدينة فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا على الذي فارقناك عليه من الإيمان ولكنا اجتوينا المدينة واشتقنا إلى أرضنا ، ثم إنهم خرجوا في تجارة لهم نحو الشام فبلغ ذلك المسلمين ، فقال بعضهم : نخرج إليهم فنقتلهم ونأخذ ما معهم لأنهم رغبوا عن ديننا ، وقالت طائفة : كيف تقتلون قوما على دينكم إن لم يذروا ديارهم ، وكان هذا بعين النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساكت لا ينهى واحدا من الفريقين ، فنزلت هذه الآية .وقال بعضهم : هم قوم أسلموا بمكة ثم لم يهاجروا وكانوا يظاهرون المشركين ، فنزلت ( فما لكم ) يا معشر المؤمنين ( في المنافقين فئتين ) أي : صرتم فيهم فئتين ، أي : فرقتين ، ( والله أركسهم ) أي : نكسهم وردهم إلى الكفر ، ( بما كسبوا ) بأعمالهم غير الزاكية ( أتريدون أن تهدوا ) أي : أن ترشدوا ( من أضل الله ) وقيل : معناه أتقولون أن هؤلاء مهتدون وقد أضلهم الله ، ( ومن يضلل الله ) أي : من يضلله الله عن الهدى ، ( فلن تجد له سبيلا ) أي : طريقا إلى الحق .