﴿ ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا ﴾
﴿ تفسير السعدي ﴾
فأخبرهم الله تعالى أنه لا ينبغي لكم أن تشتبهوا فيهم ولا تشكوا، بل أمرهم واضح غير مشكل، إنهم منافقون قد تكرر كفرهم، وودوا مع ذلك كفركم وأن تكونوا مثلهم. فإذا تحققتم ذلك منهم فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ وهذا يستلزم عدم محبتهم لأن الولاية فرع المحبة. ويستلزم أيضا بغضهم وعداوتهم لأن النهي عن الشيء أمر بضده، وهذا الأمر موقت بهجرتهم فإذا هاجروا جرى عليهم ما جرى على المسلمين، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يجري أحكام الإسلام لكل مَنْ كان معه وهاجر إليه، وسواء كان مؤمنا حقيقة أو ظاهر الإيمان. وأنهم إن لم يهاجروا وتولوا عنها فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ أي: في أي وقت وأي محل كان، وهذا من جملة الأدلة الدالة على نسخ القتال في الأشهر الحرم، كما هو قول جمهور العلماء، والمنازعون يقولون: هذه نصوص مطلقة، محمولة على تقييد التحريم في الأشهر الحرم.
﴿ تفسير الوسيط ﴾
وقوله- تعالى- وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً كلام مستأنف مسوق لبيان غلوهم وتماديهم في الكفر وتصديهم لإضلال غيرهم إثر بيان كفرهم وضلالهم في أنفسهم.أى: أن هؤلاء المنافقين الذين يحسن الظن بهم بعضكم- أيها المؤمنون- لا يكتفون بكفرهم في أنفسهم بل هم يتمنون ويودون كفركم مثلهم بحيث تكونون أنتم وهم متساوين في الكفر والنفاق، وإذا كان هذا هو حالهم فكيف تطمعون في إيمانهم؟ وكيف تحسنون الظن بهم؟ولَوْ في قوله وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ مصدرية. أى تمنوا كفركم. وقوله كَما كَفَرُوا نعت لمصدر محذوف: أى تمنوا أن تكفروا كفرا مثل كفرهم.وقوله فَتَكُونُونَ سَواءً معطوف على قوله لَوْ تَكْفُرُونَ ومفرع عليه. أى: ودوا لو تكفرون فتكونون مستوين معهم في الضلال والكفر والنفاق.وما أبلغ التعبير في جانب محاولة المؤمنين بالإرادة في قوله أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وفي جانب محاولة المنافقين بالود لأن الإرادة ينشأ عنها الفعل. فالمؤمنون يستقربون حصول الإيمان من المنافقين، لأن الإيمان قريب من فطرة الناس وعقولهم. والمنافقون يعلمون أن المؤمنين لا يرتدون عن دينهم، ويرونهم متمسكين به غاية التمسك، فلم يكن طلبهم تكفير المؤمنين إلا كلون من التمني الذي لا أمل في تحققه، فعبر عنه بالود المجرد، أى ودوا ذلك ولكنه ود بعيد التحقق.وقوله فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ نهى من الله- تعالى- للمؤمنين عن موالاة المنافقين حتى يصدر منهم ما يدل على إقلاعهم عن النفاق والضلال.والفاء في قوله: فَلا تَتَّخِذُوا للإفصاح عن شرط مقدر. والتقدير إذا كان هذا هو شأن المنافقين فلا يصح لكم- أيها المؤمنون- أن تتخذوا منهم أولياء أو نصراء أو أصدقاء حتى تتحقوا من إسلامهم بأن يهاجروا من أجل إعلاء كلمة الله من دار الكفر التي يقيمون فيها ويناصرون أهلها إلى دار الإيمان التي تقيمون فيها، وينضمون إليكم لنصرة الحق، ودفع الظلم.قال الفخر الرازي ما ملخصه: (دلت الآية على أنه لا يجوز موالاة المشركين والمنافقين والمشتهرين بالزندقة لأن أعز الأشياء وأعظمها عند جميع الخلق هو الدين، لأنه هو الأمر الذي به يتقرب إلى الله، ويتوسل به إلى السعادة ... وإذا كان الأمر كذلك، امتنع طلب المحبة والولاية في الموضع الذي يكون أعظم موجبات العداوة حاصلا فيه ودلت على إيجاب الهجرة بعد الإسلام- أى فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يسلموا ويهاجروا- وأنهم إن أسلموا لم يكن بيننا وبينهم موالاة إلا بعد الهجرة. ونظيره قوله- تعالى- ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا.واعلم أن هذا التكليف إنما كان لازما حال ما كانت الهجرة مفروضة ففي الحديث الشريف: «أنا برىء من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين. وأنا برىء من كل مسلم مع مشرك» . فكانت الهجرة واجبة إلى أن فتحت مكة. ثم نسخ فرض الهجرة بما رواه ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم فتح مكة «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية» . وروى عن الحسن أن حكم الآية ثابت في كل من أقام في دار الحرب فرأى فرض الهجرة إلى دار الإسلام قائما) .وقوله: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً بيان لحكم الله- تعالى- في هؤلاء المنافقين إذا ما استمروا في غيهم وضلالهم.والمعنى: فإن أعرض هؤلاء المنافقون عن الهجرة في سبيل الله- تعالى- فلا تعتبروا إسلامهم، بل خذوهم في الأسر، وضيقوا عليهم (واقتلوهم حيث وجدتموهم) لأنهم أعداء لكم وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ في هذه الحالة وَلِيًّا توادونه وتصادقونه وَلا نَصِيراً تنتصرون به على أعدائكم، لأن ولاية هؤلاء المنافقين محادة لله ولرسوله، والتناصر بهم يؤدى إلى الخذلان كما قال- تعالى- لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا.فالجملة الكريمة تأمر المؤمنين بقتل أولئك المنافقين الذين ظهر الكفر منهم وتنهاهم عن اتخاذهم أولياء أو أصدقاء وعن الاستنصار بهم.
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله تعالى : ( ودوا ) تمنوا ، يعني أولئك الذين رجعوا عن الدين تمنوا ( لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ) في الكفر ، وقوله ( فتكونون ) لم يرد به جواب التمني لأن جواب التمني بالفاء منصوب ، إنما أراد النسق ، أي : ودوا لو تكفرون وودوا لو تكونون سواء ، مثل قوله ودوا لو تدهن فيدهنون ( القلم - 9 ) أي : ودوا لو تدهن وودوا لو تدهنون ، ( فلا تتخذوا منهم أولياء ) منع من موالاتهم ، ( حتى يهاجروا في سبيل الله ) معكم .قال عكرمة : هي هجرة أخرى ، والهجرة على ثلاثة أوجه : هجرة المؤمنين في أول الإسلام ، وهي قوله تعالى " للفقراء المهاجرين " ( الحشر - 8 ) وقوله : " ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله " ( النساء - 100 ) ، ونحوهما من الآيات ، وهجرة المنافقين : وهي الخروج في سبيل الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صابرا محتسبا [ كما حكي هاهنا ] منع من موالاتهم حتى يهاجروا في سبيل الله ، وهجرة سائر المؤمنين وهي ما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " المهاجر من هجر ما نهى الله عنه " .قوله تعالى : ( فإن تولوا ) أعرضوا عن التوحيد والهجرة ، ( فخذوهم ) أي : خذوهم أسارى ، ومنه يقال للأسير أخيذ ، ( واقتلوهم حيث وجدتموهم ) في الحل والحرم ، ( ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا ) ثم استثنى طائفة منهم فقال :