﴿ إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون ﴾
﴿ تفسير السعدي ﴾
يخبر تعالى أن من كفر بعد إيمانه، ثم ازداد كفرا إلى كفره بتماديه في الغي والضلال، واستمراره على ترك الرشد والهدى، أنه لا تقبل توبتهم، أي: لا يوفقون لتوبة تقبل بل يمدهم الله في طغيانهم يعمهون، قال تعالى ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة فلما زغوا أزاغ الله قلوبهم فالسيئات ينتج بعضها بعضا، وخصوصا لمن أقدم على الكفر العظيم وترك الصراط المستقيم، وقد قامت عليه الحجة ووضح الله له الآيات والبراهين، فهذا هو الذي سعى في قطع أسباب رحمة ربه عنه، وهو الذي سد على نفسه باب التوبة، ولهذا حصر الضلال في هذا الصنف، فقال وأولئك هم الضالون وأي: ضلال أعظم من ضلال من ترك الطريق عن بصيرة،
﴿ تفسير الوسيط ﴾
قوله- تعالى- إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً.قال قتادة وعطاء: نزلت في اليهود كفروا بعيسى والإنجيل بعد إيمانهم. بموسى والتوراة. ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبالقرآن.وقال أبو العالية والحسن: نزلت في أهل الكتاب جميعا، آمنوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل مبعثه ثم كفروا به بعد مبعثه، ثم ازدادوا كفرا بإصرارهم على ذلك، وطعنهم في نبوته في كل وقت، وعداوتهم له، ونقضهم لعهودهم وصدهم الناس عن طريق الحق، وسخريتهم بآيات الله.ويمكن أن يقال: إن الآية الكريمة على عمومها فهي تتناول كل من آمن ثم ارتد عن الإيمان إلى الكفر، وازداد كفرا بمقاومته للحق، وإيذائه لأتباعه، وإصراره على كفره وعناده وجحوده.ثم بين- سبحانه- سوء عاقبتهم فقال: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ.أى إن هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا وعنادا وجحودا للحق لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ أى لن تتوقع منهم توبة حتى تقبل، لأنهم بإصرارهم على كفرهم، ورسوخهم فيه، وتلاعبهم بالإيمان، قد صاروا غير أهل للتوفيق لها، ولأنهم حتى لو تابوا فتوبتهم إنما هي بألسنتهم فحسب، أما قلوبهم فمليئة بالكفر والنفاق ولذا تعتبر توبتهم كلا توبة.وبعضهم حمل عدم قبول توبتهم على أنهم تابوا عند حضور الموت، والتوبة في هذا الوقت لا قيمة لها.قال القرطبي: وهذا قول حسن كما قال- تعالى-: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ.وبعضهم حمل عدم قبول توبتهم على أنهم ماتوا على الكفر، وإلى هذا المعنى اتجه صاحب الكشاف فقد قال. فإن قلت: قد علم أن المرتد كيفما ازداد كفرا فإنه مقبول التوبة إذا تاب فما معنى لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ؟ قلت: جعلت عبارة عن الموت على الكفر، لأن الذي لا تقبل توبته من الكفار هو الذي يموت على الكفر. كأنه قيل إن اليهود أو المرتدين الذين فعلوا ما فعلوا مائتون على الكفر، داخلون في جملة من لا تقبل توبتهم.فإن قلت: فأى فائدة في هذه الكناية؟ أعنى أن كنى الموت على الكفر بامتناع قبول التوبة؟قلت: الفائدة فيها جليلة وهي التغليظ في شأن أولئك الفريق من الكفار، وإبراز حالهم في صورة حالة الآيسين من الرحمة التي هي أغلظ الأحوال وأشدها ألا ترى أن الموت على الكفر إنما يخاف من أجل اليأس من الرحمة» .والذي يبدو لنا أن الآية الكريمة أشد ما تكون انطباقا على أولئك الذين تتكرر منهم الردة من الإيمان إلى الكفر فهم لفساد قلوبهم، وانطماس بصيرتهم واستيلاء الأهواء والمطامع على نفوسهم أصبح الإيمان لا استقرار له في قلوبهم بل يتلاعبون به، ويبيعونه نظير عرض قليل من أعراض الدنيا، وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى- في سورة النساء إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا، ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا. ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا .وقوله وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ أى الكاملون في الضلال، البعيدون عن طريق الحق، المستحقون لسخط الله وعذابه.
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله عز وجل : ( إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا ) قال قتادة والحسن : نزلت في اليهود كفروا بعيسى عليه السلام والإنجيل بعد إيمانهم بأنبيائهم ، ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن .وقال أبو العالية : نزلت في اليهود والنصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم لما رأوه بعد إيمانهم بنعته وصفته في كتبهم ثم ازدادوا كفرا يعني : ذنوبا في حال كفرهم .قال مجاهد : نزلت في جميع الكفار أشركوا بعد إقرارهم بأن الله خالقهم ، ثم ازدادوا كفرا أي : أقاموا على كفرهم حتى هلكوا عليه .قال الحسن : ازدادوا كفرا كلما نزلت آية كفروا بها ، فازدادوا كفرا وقيل : ازدادوا كفرا بقولهم : نتربص بمحمد ريب المنون .قال الكلبي : نزلت في الأحد عشر من أصحاب الحارث بن سويد ، لما رجع الحارث إلى الإسلام أقاموا هم على الكفر بمكة وقالوا : نقيم على الكفر ما بدا لنا فمتى أردنا الرجعة ينزل فينا ما نزل في الحارث ، فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فمن دخل منهم في الإسلام قبلت توبته ونزل فيمن مات منهم كافرا( إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار ) الآية .فإن قيل : قد وعد الله قبول توبة من تاب ، فما معنى قوله : ( لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون ) قيل : لن تقبل توبتهم إذا ( رجعوا في حال المعاينة ) كما قال : " وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن " سورة النساء الآية ( 18 ) .وقيل : هذا في أصحاب الحارث بن سويد حيث أمسكوا عن الإسلام ، وقالوا : نتربص بمحمد فإن ساعده الزمان نرجع إلى دينه ، لن يقبل منهم ذلك لأنهم متربصون غير محققين ، وأولئك هم الضالون .