لا نفع في كثير من كلام الناس سرّاً فيما بينهم، إلا إذا كان حديثًا داعيًا إلى بذل المعروف من الصدقة، أو الكلمة الطيبة، أو التوفيق بين الناس، ومن يفعل تلك الأمور طلبًا لرضا الله تعالى راجيًا ثوابه، فسوف نؤتيه ثوابًا جزيلا واسعًا.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«لا خير في كثير من نجواهم» أي الناس أي يتناجون فيه ويتحدثون «إلا» نجوى «من أمر بصدقة أو معروف» عمل بر «أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك» المذكور «ابتغاء» طلب «مرضات الله» لا غيره من أمور الدنيا «فسوف نؤتيه» بالنون والياء أي الله «أجرا عظيما».
﴿ تفسير السعدي ﴾
أي: لا خير في كثير مما يتناجى به الناس ويتخاطبون، وإذا لم يكن فيه خير، فإما لا فائدة فيه كفضول الكلام المباح، وإما شر ومضرة محضة كالكلام المحرم بجميع أنواعه. ثم استثنى تعالى فقال: إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ ْ من مال أو علم أو أي نفع كان، بل لعله يدخل فيه العبادات القاصرة كالتسبيح والتحميد ونحوه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة" الحديث. أَوْ مَعْرُوفٍ ْ وهو الإحسان والطاعة وكل ما عرف في الشرع والعقل حسنه، وإذا أطلق الأمر بالمعروف من غير أن يقرن بالنهي عن المنكر دخل فيه النهي عن المنكر، وذلك لأن ترك المنهيات من المعروف، وأيضا لا يتم فعل الخير إلا بترك الشر. وأما عند الاقتران فيفسر المعروف بفعل المأمور، والمنكر بترك المنهي. أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ْ والإصلاح لا يكون إلا بين متنازعين متخاصمين، والنزاع والخصام والتغاضب يوجب من الشر والفرقة ما لا يمكن حصره، فلذلك حث الشارع على الإصلاح بين الناس في الدماء والأموال والأعراض، بل وفي الأديان كما قال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ْ وقال تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ْ الآية. وقال تعالى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ْ والساعي في الإصلاح بين الناس أفضل من القانت بالصلاة والصيام والصدقة، والمصلح لا بد أن يصلح الله سعيه وعمله. كما أن الساعي في الإفساد لا يصلح الله عمله ولا يتم له مقصوده كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ْ. فهذه الأشياء حيثما فعلت فهي خير، كما دل على ذلك الاستثناء. ولكن كمال الأجر وتمامه بحسب النية والإخلاص، ولهذا قال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ْ فلهذا ينبغي للعبد أن يقصد وجه الله تعالى ويخلص العمل لله في كل وقت وفي كل جزء من أجزاء الخير، ليحصل له بذلك الأجر العظيم، وليتعود الإخلاص فيكون من المخلصين، وليتم له الأجر، سواء تم مقصوده أم لا، لأن النية حصلت واقترن بها ما يمكن من العمل.
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله تعالى : ( لا خير في كثير من نجواهم ) يعني : قوم طعمة ، وقال مجاهد : الآية عامة في حق جميع الناس ، والنجوى : هي الإسرار في التدبير ، وقيل : النجوى ما ينفرد بتدبيره قوم سرا كان أو جهرا ، فمعنى الآية : لا خير في كثير مما يدبرونه بينهم ، ( إلا من أمر بصدقة ) أي : إلا في نجوى من أمر بصدقة ، فالنجوى تكون فعلا وقيل : هذا استثناء منقطع ، يعني : لكن من أمر بصدقة ، وقيل النجوى هاهنا : الرجال المتناجون ، كما قال الله تعالى " وإذ هم نجوى " ( الإسراء - 47 ) . ( إلا من أمر بصدقة ) أي : حث عليها ، ( أو معروف ) أي : بطاعة الله وما يعرفه الشرع ، وأعمال البر كلها معروف ، لأن العقول تعرفها .( أو إصلاح بين الناس ) أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري ، أنا حاجب بن أحمد الطوسي ، أنا محمد بن حماد ، أنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن سالم هو ابن أبي الجعد ، عن أم الدرداء رضي الله عنها ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصدقة والصلاة " ؟ قال : قلنا بلى ، قال : " إصلاح ذات البين . وفساد ذات البين هي الحالقة " .أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران ، أنا إسماعيل ابن محمد الصفار ، أنا أحمد بن منصور الرمادي ، ثنا عبد الرزاق ، ثنا معمر ، عن الزهري ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أمه أم كلثوم بنت عقبة ، وكانت من المهاجرات الأول ، قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ليس بالكذاب من أصلح بين الناس فقال خيرا أو نمى خيرا " .قوله تعالى : ( ومن يفعل ذلك ) أي : هذه الأشياء التي ذكرها ، ( ابتغاء مرضاة الله ) أي : طلب رضاه ، ( فسوف نؤتيه ) في الآخرة ، ( أجرا عظيما ) قرأ أبو عمرو وحمزة ( يؤتيه ) بالياء ، يعني : يؤتيه الله ، وقرأ الآخرون بالنون .
﴿ تفسير الوسيط ﴾
وقوله- تعالى-: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ. إشارة إلى ما جبل عليه كثير من الناس من إخفاء الأقوال أو الأعمال التي فيها شر ومضرة، ومن إعلان الأقوال أو الأفعال التي من ورائها خير ومنفعة. وقوله نَجْواهُمْ أى:مما يتناجى به الناس ويتكلمون فيه. والنجوى: اسم مصدر بمعنى المسارة. يقال: نجوته نجوا ونجوى وناجيته مناجاة. أى: ساررته بكلام على انفراد. وأصله: أن تعلو بمن تناجيه بسر معين في نجوة من الأرض. أى في مكان مرتفع منفصل بارتفاعه عما حوله. وقيل: أصله من النجاة، لأن الإسرار بالشيء فيه معاونة على النجاة. وتطلق النجوى على القوم المتناجين كما في قوله- تعالى- نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى.والضمير في قوله مِنْ نَجْواهُمْ يعود إلى الناس جميعا، ويدخل فيه أولئك الذين كانوا يختانون أنفسهم ومن على شاكلتهم دخولا أوليا.والمعروف- كما يقول الآلوسى- هو كل ما عرفه الشرع واستحسنه، فيشمل جميع أنواع البر كقرض وإغاثة ملهوف وإرشاد ضال إلى غير ذلك. ويراد به هنا ما عدا الصدقة وما عدا ما أشير إليه بقوله- تعالى- أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ .والمعنى: لا خير في كثير من الكلام الذي يتناجى فيه الناس، ويتحدثون به سرا، إلا في نجوى من أمر غيره سرا بصدقة يزكى بها ماله، وينفع بها المحتاج إليها، أو من أمر غيره بالإكثار من أعمال البر، أو القيام بالإصلاح بين الناس المتخاصمين لكي يعودوا إلى ما كانوا عليه من الألفة والإخاء والصفاء.قال الجمل: وقوله إِلَّا مَنْ أَمَرَ. في هذا الاستثناء قولان:أحدهما: متصل والثاني: أنه منقطع. وهما مبنيان على أن النجوى يجوز أن يراد بها المصدر كالدعوى فتكون بمعنى التناجي أى التحدث. وأن يراد بها القوم المتناجون إطلاقا للمصدر على الواقع منه مجازا.فعلى الأول يكون منقطعا، لأن من أمر ليس مناجاة، فكأنه قيل: لكن من أمر بصدقة ففي نجواه الخير وإن جعلنا النجوى بمعنى المتناجين كان متصلا. وقوله إِلَّا مَنْ أَمَرَ. إما منصوب على الاستثناء المنقطع إن جعلته منقطعا في لغة الحجازيين. أو على أصل الاستثناء إن جعلته متصلا. وإما مجرور على البدل من كثير، أو من نجواهم، أو صفة لأحدهما .فأنت ترى أن الآية الكريمة قد أخرجت من التناجي المذموم ثلاث خصال هي جماع الخير، وذلك لأن الصدقة التي يخرجها الإنسان تكون سببا في تزكية ماله، وحسن ثوابه، ونشر المحبة والمودة بين الناس.والتعبير بقوله إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ يفيد الدعوة إليها، والحث على بذلها سرا ما دامت المصلحة تقتضي ذلك.أما المعروف وهو النوع الثاني من التناجي المحمود فهو- كما يقول القرطبي لفظ يعم كل أعمال البر. ففي الحديث الشريف (كل معروف صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق) وقال على بن أبى طالب: (لا يزهدنك في المعروف كفر من كفره، فقد يشكر الشاكر بأضعاف جحود الجاحد) .وقال الماوردي: ينبغي لمن يقدر على إسداء المعروف أن يعجله حذار فواته، ويبادر به خيفة عجزه، وليعلم أنه من فرض زمانه، وغنائم إمكانه، ولا يهمله ثقة بالقدرة عليه، فكم من واثق بالقدرة ففاتت فأعقبت ندما.وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لكل شيء ثمرة وثمرة المعروف السراح- أى التعجيل- ومن شرط المعروف ترك الامتنان به، وترك الإعجاب بفعله. لما فيهما من إسقاط الشكر، وإحباط الأجر. قال بعض الشعراء:زاد معروفك عندي عظما ... أنه عندك مستور حقيرتتناساه كأن لم تأته ... وهو عند الناس مشهور خطيروالأمة التي يفشو فيها قول المعروف وفعله، تسودها السعادة، وتظلها المحبة والمودة والرحمة.وأما الإصلاح بين الناس فهو فريضة اجتماعية يقوم بها من صفت نفوسهم وقويت عزائمهم، ورسخ إيمانهم.وقد حض القرآن على الإصلاح بين الناس سواء أكانوا جماعات أم أفرادا لأن التخاصم والتنازع يؤدى إلى انتشار العداوات والمفاسد بين الناس. قال- تعالى-: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.وقد ساق الإمام ابن كثير جملة من الأحاديث التي تحض على الإصلاح بين الناس ومن ذلك ما رواه ابن مردويه عن محمد بن يزيد بن حنيش قال: دخلنا على سفيان الثوري نعوده. فدخل علينا سعيد بن حسان فقال له الثوري الحديث الذي كنت حدثتنيه عن أم صالح أردده على.فقال: حدثتني أم صالح عن صفية بنت شيبة عن أم حبيبة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلام ابن آدم كله عليه لا له. إلا ذكر الله- تعالى- أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر» . فقال سفيان: أو ما سمعت الله في كتابه يقول: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ. فهو هذا بعينه.وروى الجماعة- سوى ابن ماجة- عن أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمى خيرا أو يقول خيرا» . وقالت: لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث: في الحرب. والإصلاح بين الناس. وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها) .وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن أبى الدرداء قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى. يا رسول الله!! قال إصلاح ذات البين» . قال: «وفساد ذات البين هي الحالقة» .ففي هذه الأحاديث الشريفة دعوة قوية إلى الإصلاح بين الناس حتى يعيشوا في أمان واطمئنان.وبذلك نرى أن هذه الأمور الثلاثة التي أخرجها الله- تعالى من التناجي المذموم هي جماع الخير الإنسانى والاجتماعى.وقد أشار الإمام الرازي إلى ذلك بقوله: هذه الآية وإن نزلت في مناجاة بعض قوم ذلك السارق مع بعض إلا أنها في المعنى عامة. والمراد: لا خير فيما يتناجى فيه الناس ويخوضون فيه من الحديث إلا ما كان من أعمال الخير ثم إنه- تعالى- ذكر من أعمال الخير ثلاثة أنواع:الأمر بالصدقة. والأمر بالمعروف. والإصلاح بين الناس.وإنما ذكر الله- تعالى- هذه الأقسام الثلاثة، لأن عمل الخير إما أن يكون بإيصال المنفعة أو بدفع المضرة. أما إيصال الخير: فإما أن يكون من الخيرات الجسمانية وهو إعطاء المال. وإليه الإشارة بقوله: إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ. وإما أن يكون من الخيرات الروحانية وهو عبارة عن تكميل القوة النظرية بالعلوم، أو تكميل القوة العملية بالأفعال الحسنة. ومجموعهما عبارة عن الأمر بالمعروف. وإليه الإشارة بقوله أَوْ مَعْرُوفٍ وأما إزالة الضرر فإليها الإشارة أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ فثبت أن مجامع الخيرات مذكورة في هذه الآية .ثم بين- سبحانه- حسن عاقبة من يقوم بفعل هذه الفضائل فقال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً.أى: ومن يفعل ذلك المذكور من الصدقة والمعروف والإصلاح بين الناس، قاصدا بفعله رضا الله وحسن مثوبته، فسوف نؤتيه أجرا عظيما لا يعرف مقداره إلا الله- تعالى-. وقال- سبحانه- ومن يفعل ذلك ولم يقل ومن يأمر بذلك كما جاء في صدر الآية. لأن المقصود الترغيب في هذا الفعل الحسن، لأن الأمر بالخير إذا دخل في زمرة الخيرين كان الفاعل أحرى بالدخول في زمرتهم.وفي تقييد الفعل بكونه ابتغاء مرضاة الله، تحريض على إخلاص النية، لأن الأعمال بالنيات، وإذا صاحب الرياء الأعمال أبطلها ومحق بركتها.والتعبير بسوف هنا لتأكيد الوقوع في المستقبل. أى. فسوف نؤتيه أجرا لا يحيط به نطاق الوصف، ولن نبخسه شيئا من حقه حتى ولو كان هذا الشيء بالغا النهاية في الصغر.
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
يقول تعالى : ( لا خير في كثير من نجواهم ) يعني : كلام الناس ( إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ) أي : إلا نجوى من قال ذلك كما جاء في الحديث الذي رواه ابن مردويه :حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن سليمان بن الحارث ، حدثنا محمد بن يزيد بن خنيس قال : دخلنا على سفيان الثوري نعوده - وأومأ إلى دار العطارين - فدخل عليه سعيد بن حسان المخزومي فقال له سفيان الثوري : الحديث الذي كنت حدثتني به عن أم صالح اردده علي . فقال : حدثتني أم صالح ، عن صفية بنت شيبة ، عن أم حبيبة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كلام ابن آدم كله عليه لا له ما خلا أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر [ أو ذكر الله عز وجل " ، قال سفيان : فناشدته ] فقال محمد بن يزيد : ما أشد هذا الحديث ؟ فقال سفيان : وما شدة هذا الحديث ؟ إنما جاءت به امرأة عن امرأة ، هذا في كتاب الله الذي أرسل به نبيكم صلى الله عليه وسلم أو ما سمعت الله يقول في كتابه : ( لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ) فهو هذا بعينه ، أو ما سمعت الله يقول : ( يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ) [ النبأ : 38 ] فهو هذا بعينه ، أو ما سمعت الله يقول في كتابه : ( والعصر . إن الإنسان لفي خسر . [ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ] ) [ سورة العصر ] ، فهو هذا بعينه .وقد روى هذا الحديث الترمذي وابن ماجه من حديث محمد بن يزيد بن خنيس عن سعيد بن حسان ، به . ولم يذكرا أقوال الثوري إلى آخرها ، ثم قال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن خنيس .وقال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، حدثنا صالح بن كيسان ، حدثنا محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب : أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره ، أن أمه أم كلثوم بنت عقبة أخبرته : أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا - أو يقول خيرا " وقالت : لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث : في الحرب ، والإصلاح بين الناس ، وحديث الرجل امرأته ، وحديث المرأة زوجها . قال : وكانت أم كلثوم بنت عقبة من المهاجرات اللاتي بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم .وقد رواه الجماعة ، سوى ابن ماجه ، من طرق ، عن الزهري ، به نحوه .قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرة عن سالم بن أبي الجعد ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة ، والصيام والصدقة ؟ " قالوا : بلى . قال : " إصلاح ذات البين " قال : " وفساد ذات البين هي الحالقة " .ورواه أبو داود والترمذي ، من حديث أبي معاوية ، وقال الترمذي : حسن صحيح .وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن عبد الرحيم ، حدثنا سريج بن يونس ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر ، حدثنا أبي ، عن حميد ، عن أنس ; أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي أيوب : " ألا أدلك على تجارة ؟ " قال : بلى : قال : " تسعى في صلح بين الناس إذا تفاسدوا ، وتقارب بينهم إذا تباعدوا " ثم قال البزار : وعبد الرحمن بن عبد الله العمري لين ، وقد حدث بأحاديث لم يتابع عليها .ولهذا قال : ( ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله ) أي : مخلصا في ذلك محتسبا ثواب ذلك عند الله عز وجل ( فسوف نؤتيه أجرا عظيما ) أي : ثوابا كثيرا واسعا .
﴿ تفسير القرطبي ﴾
قوله تعالى : لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيماأراد ما تفاوض به قوم بني أبيرق من التدبير ، وذكروه للنبي صلى الله عليه وسلم . والنجوى : السر بين الاثنين ، تقول : ناجيت فلانا مناجاة ونجاء وهم ينتجون ويتناجون . ونجوت فلانا أنجوه نجوا ، أي ناجيته ، فنجوى مشتقة من نجوت الشيء أنجوه ، أي خلصته وأفردته ، والنجوة من الأرض المرتفع لانفراده بارتفاعه عما حوله ، قال الشاعر :فمن بنجوته كمن بعقوته والمستكين كمن يمشي بقرواحفالنجوى المسارة ، مصدر ، وقد تسمى به الجماعة ، كما يقال : قوم عدل ورضا . قال الله تعالى : وإذ هم نجوى فعلى الأول يكون الأمر أمر استثناء من غير الجنس . وهو الاستثناء المنقطع . وقد تقدم ، وتكون " من " في موضع رفع ، أي : لكن من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ودعا إليه ففي نجواه خير . ويجوز أن تكون " من " في موضع خفض ويكون التقدير : لا خير في كثير من نجواهم إلا نجوى من أمر بصدقة ثم حذف . وعلى الثاني وهو أن يكون النجوى اسما للجماعة المنفردين ، فتكون " من " في موضع خفض على البدل ، أي لا خير في كثير من نجواهم إلا فيمن أمر بصدقة . أو تكون في موضع نصب على قول من قال : ما مررت بأحد إلا زيدا . وقال بعض المفسرين منهم الزجاج : النجوى كلام الجماعة المنفردة أو الاثنين كان ذلك سرا أو جهرا ، وفيه بعد . والله أعلم . والمعروف لفظ يعم أعمال البر كلها . وقال مقاتل : المعروف هنا الفرض ، والأول أصح . وقال صلى الله عليه وسلم : كل معروف صدقة وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق . وقال صلى الله عليه وسلم : المعروف كاسمه وأول من يدخل الجنة يوم القيامة المعروف وأهله . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : لا يزهدنك في المعروف كفر من كفره ، فقد يشكر الشاكر بأضعاف جحود الكافر . وقال الحطيئة :من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناسوأنشد الرياشي :يد المعروف غنم حيث كانت تحملها كفور أو شكورففي شكر الشكور لها جزاء وعند الله ما كفر الكفوروقال الماوردي : " فينبغي لمن يقدر على إسداء المعروف أن يعجله حذار فواته ، ويبادر به خيفة عجزه ، وليعلم أنه من فرص زمانه ، وغنائم إمكانه ، ولا يهمله ثقة بالقدرة عليه ، فكم من واثق بالقدرة فاتت فأعقبت ندما ، ومعول على مكنة زالت فأورثت خجلا ، كما قال الشاعر :ما زلت أسمع كم من واثق خجل حتى ابتليت فكنت الواثق الخجلاولو فطن لنوائب دهره ، وتحفظ من عواقب أمره لكانت مغانمه مذخورة ، ومغارمه مجبورة ، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من فتح عليه باب من الخير فلينتهزه فإنه لا يدري متى يغلق عنه . وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : لكل شيء ثمرة وثمرة المعروف السراح . وقيل لأنوشروان : ما أعظم المصائب عندكم ؟ قال : أن تقدر على المعروف فلا تصطنعه حتى يفوت . وقال عبد الحميد : من أخر الفرصة عن وقتها فليكن على ثقة من فوتها . وقال بعض الشعراء :إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكل خافقة سكونولا تغفل عن الإحسان فيها فما تدري السكون متى يكونوكتب بعض ذوي الحرمات إلى وال قصر في رعاية حرمته :أعلى الصراط تريد رعية حرمتي أم في الحساب تمن بالإنعامللنفع في الدنيا أريدك ، فانتبه لحوائجي من رقدة النواموقال العباس رضي الله عنه : لا يتم المعروف إلا بثلاث خصال : تعجيله وتصغيره وستره ، فإذا عجلته هنأته ، وإذا صغرته عظمته ، وإذا سترته أتممته . وقال بعض الشعراء :زاد معروفك عندي عظما أنه عندك مستور حقيرتتناساه كأن لم تأته وهو عند الناس مشهور خطيرومن شرط المعروف ترك الامتنان به ، وترك الإعجاب بفعله ، لما فيهما من إسقاط الشكر وإحباط الأجر . وقد تقدم في " البقرة " بيانه .قوله تعالى : أو إصلاح بين الناس عام في الدماء والأموال والأعراض ، وفي كل شيء يقع التداعي والاختلاف فيه بين المسلمين ، وفي كل كلام يراد به وجه الله تعالى . وفي الخبر : ( كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ما كان من أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر لله تعالى ) . فأما من طلب الرياء والترؤس فلا ينال الثواب . وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه : رد الخصوم حتى يصطلحوا ، فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن . وسيأتي في " المجادلة " ما يحرم من المناجاة وما يجوز إن شاء الله تعالى . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال ، : من أصلح بين اثنين أعطاه الله بكل كلمة عتق رقبة . وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي أيوب : ألا أدلك على صدقة يحبها الله ورسوله ، تصلح بين أناس إذا تفاسدوا ، وتقرب بينهم إذا تباعدوا . وقال الأوزاعي : ما خطوة أحب إلى الله عز وجل من خطوة في إصلاح ذات البين ، ومن أصلح بين اثنين كتب الله له براءة من النار . وقال محمد بن المنكدر : تنازع رجلان في ناحية المسجد فملت إليهما ، فلم أزل بهما حتى اصطلحا ؛ فقال أبو هريرة وهو يراني : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من أصلح بين اثنين استوجب ثواب شهيد . ذكر هذه الأخبار أبو مطيع مكحول بن المفضل النسفي في كتاب اللؤلئيات له ، وجدته بخط المصنف في وريقة ولم ينبه على موضعها رضي الله عنه . و " ابتغاء " نصب على المفعول من أجله .
﴿ تفسير الطبري ﴾
القول في تأويل قوله : لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: " لا خير في كثير من نجواهم "، لا خير في كثير من نجوى الناس جميعًا=" إلا من أمر بصدقة أو معروف "، و " المعروف "، هو كل ما أمر الله به أو ندب إليه من أعمال البر والخير، (1) =" أو إصلاح بين الناس "، وهو الإصلاح بين المتباينين أو المختصمين، بما أباح الله الإصلاح بينهما، ليتراجعا إلى ما فيه الألفة واجتماع الكلمة، على ما أذن الله وأمر به.= ثم أخبر جل ثناؤه بما وعد من فعل ذلك فقال: " ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاةِ الله فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا "، يقول: ومن يأمر بصدقة أو معروف من الأمر، أو يصلح بين الناس=" ابتغاء مرضاة الله "، يعني: طلب رضى الله بفعله ذلك (2) =" فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا "، يقول: فسوف نعطيه جزاءً لما فعل من ذلك عظيمًا، (3) ولا حدَّ لمبلغ ما سمى الله " عظيمًا " يعلمه سواه. (4)* * *واختلف أهل العربية في معنى قوله: " لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة ".فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك: لا خير في كثير من نجواهم، إلا في نجوى من أمر بصدقة= كأنه عطف ب " مَنْ" على " الهاء والميم " التي في" نجواهم ". (5) وذلك خطأ عند أهل العربية، لأن " إلا " لا تعطف على " الهاء والميم " في مثل هذا الموضع، من أجل أنه لم ينله الجحد.* * *وقال بعض نحويي الكوفة: قد تكون " مَنْ" في موضع خفض ونصب. أما الخفض، فعلى قولك: لا خير في كثير من نجواهم إلا فيمن أمر بصدقة. فتكون " النجوى " على هذا التأويل، هم الرجال المناجون، كما قال جل ثناؤه: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ [سورة المجادلة: 7]، وكما قال وَإِذْ هُمْ نَجْوَى [سورة الإسراء: 47].وأما النصب، فعلى أن تجعل " النجوى " فعلا (6) فيكون نصبًا، لأنه حينئذ يكون استثناء منقطعًا، لأن " مَنْ" خلاف " النجوى "، (7) فيكون ذلك نظير قول الشاعر. (8)...... وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِإِلا أَوَارِيَّ لأيًا مَا أُبَيِّنُها...... (9)وقد يحتمل " مَنْ" على هذا التأويل أن يكون رفعًا، كما قال الشاعر: (10)وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أنِيسُإلا اليَعَافِيرُ وَإلا العِيسُ (11)* * *قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك، أن تجعل " من " في موضع خفض، بالردِّ على " النجوى "= وتكون " النجوى " بمعنى جمع المتناجين، خرج مخرج " السكرى " و " الجرحى " و " المرضى ". وذلك أن ذلك أظهر معانيه.فيكون تأويل الكلام: لا خير في كثير من المتناجين، يا محمد، من الناس، إلا فيمن أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، فإن أولئك فيهم الخير.-------------------------الهوامش :(1) انظر تفسير"المعروف" فيما سلف 3 : 371 / 7 : 105 ، وغيرهما من المواضع في فهارس اللغة.(2) انظر تفسير"الابتغاء" فيما سلف ص: 170 ، تعليق: 3 ، والمراجع هناك.(3) انظر تفسير"الأجر" فيما سلف ص: 113 ، تعليق: 3 ، والمراجع هناك.(4) انظر تفسير"عظيم" فيما سلف 6 : 518.(5) في المطبوعة: "كأنه عطف من" بحذف الباء ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو صواب.(6) قوله: "فعلا" أي مصدرًا.(7) في المطبوعة: "لأنه من خلاف النجوى" ، والصواب المحض من المخطوطة.(8) هو النابغة الذبياني.(9) مضى الشعر وتخريجه وتمامه فيما سلف 1 : 183 ، 523 ، وهو في معاني القرآن للفراء 1 : 288.(10) هو جران العود النميري.(11) ديوانه: 52 ، سيبويه 1 : 133 ، 365 ، معاني القرآن للفراء 1 : 288 ، ومجالس ثعلب: 316 ، 452 ، الخزانة 4: 197 ، والعيني (هامش الخزانة) 3 : 107 ، وسيأتي في التفسير: 12: 28 / 27 : 39 (بولاق) ، ثم في مئات من كتب النحو والعربية. ورواية هذا الشعر في ديوانه:قَدْ نَدَعُ المَنْزِلَ يا لَمِيسُيَعْتَسُّ فيه السَّبُعُ الجَرُوسُالذِّئْبُ، أو ذُو لِبَدٍ هَمُوسُبَسَابِسًا، لَيْسَ بِهِ أَنِيسُإلا اليَعَافِيرُ وَإلا العِيسُوَبَقَرٌ مُلَمَّعٌ كُنُوسُكَأَنَّمَا هُنَّ الجَوَارِي المِيسُ"يعتس": يطلب ما يأكل ، "الجروس" هنا الشديد الأكل ، وأخطأ صاحب الخزانة فقال: "من الجرس ، وهو الصوت الخفي" ، وليس ذلك من صفات الذئب ، وحسبه عواؤه إذا جاع ، نفيًا لوصفه بخفاء الصوت! ، وقد بين في البيت الثالث أنه يعني"الذئب". و"ذو لبد" هو الأسد و"اللبدة" ما بين كتفيه من الوبر."هموس" من صفة الأسد ، يقال تارة: هو الذي يمشي مشيًا يخفيه ، فلا يسمع صوت وطئه. ويقال تارة أخرى: شديد الغمز بضرسه في أكله. وهذا هو المراد هنا ، فإنه أراد ذكر خلاء هذه الديار ، وما فيها من المخاوف."بسابس" قفار خلاء. وأما رواية: "وبلدة" فإن"البلدة" هنا: هي الأرض القفر التي يأوى إليها الحيوان. و"اليعافير" جمع"يعفور" ، وهو الظبي في لون التراب. و"العيس" جمع"أعيس" وهو الظبي الأبيض فيه أدمة."كنوس" جمع"كانس" ، وهو الظبي أو البقر إذا دخل كناسه ، وهو بيته في الشجر يستتر فيه. و"الميس" جمع"ميساء" ، وهي التي تتبختر وتختال كالعروس في مشيتها.ثم انظر الخزانة ، ومجالس ثعلب. وانظر ما سلف كله في معاني القرآن للفراء 1 : 287 ، 288.
﴿ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ﴾