ومثل هذا الذي حصل مِن زعماء الكفار في "مكة" من الصدِّ عن دين الله تعالى، جعلنا في كل قرية مجرمين يتزعمهم أكابرهم؛ ليمكروا فيها بالصد عن دين الله، وما يكيدون إلا أنفسهم، وما يُحِسُّون بذلك.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«وكذلك» كما جعلنا فُسَّاق مكة أكابرها «جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها» بالصد عن الإيمان «وما يمكرون إلا بأنفسهم» لأن وباله عليهم «وما يشعرون» بذلك.
﴿ تفسير السعدي ﴾
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا أي: الرؤساء الذين قد كبر جرمهم، واشتد طغيانهم لِيَمْكُرُوا فِيهَا بالخديعة والدعوة إلى سبيل الشيطان، ومحاربة الرسل وأتباعهم، بالقول والفعل، وإنما مكرهم وكيدهم يعود على أنفسهم، لأنهم يمكرون، ويمكر الله والله خير الماكرين.
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله عز وجل : ( وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ) أي : كما أن فساق مكة أكابرها ، كذلك جعلنا فساق كل [ قرية ] أكابرها ، أي : عظماءها ، جمع أكبر ، مثل أفضل وأفاضل ، وأسود وأساود ، وذلك سنة الله تعالى أنه جعل في كل قرية أتباع الرسل ضعفاءهم ، كما قال في قصة نوح عليه السلام : ( أنؤمن لك واتبعك الأرذلون ) ( الشعراء ، 111 ) ، وجعل فساقهم أكابرهم ، ( ليمكروا فيها ) وذلك أنهم أجلسوا على كل طريق من طرق مكة أربعة نفر ليصرفوا الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، يقولون لكل من يقدم : إياك وهذا الرجل فإنه كاهن ساحر كذاب . ( وما يمكرون إلا بأنفسهم ) لأن وبال مكرهم يعود عليهم ( وما يشعرون ) أنه كذلك .
﴿ تفسير الوسيط ﴾
أكابر: جمع أكبر، وهم الرؤساء والعظماء في الأمم. والمجرمون: جمع مجرم، من أجرم إذا اكتسب أمرا قبيحا، ومنه الجرم والجريمة للذنب والإثم.والمعنى: وكما جعلنا في قريتك مكة رؤساء دعاة إلى الكفر وإلى عداوتك جعلنا في كل قرية من قرى الرسل من قبلك رؤساء من المجرمين مثلهم ليمكروا فيها، ويتجبروا على الناس، ثم كانت العاقبة للرسل، فلا تبتئس يا محمد مما يصيبك من زعماء مكة فتلك طبيعة الحياة في كل عصر، أن يكون زعماء الأمم وكبراؤها أشد الناس عداوة للرسل والمصلحين.قال الجمل: وقوله: أَكابِرَ مفعول أول لجعل، وأكابر مضاف ومجرميها مضاف إليه، وفِي كُلِّ قَرْيَةٍ المفعول الثاني لجعل، ووجب تقديمه ليصح عود الضمير عليه، فهو على حد قوله:كذا إذا عاد عليه مضمر ... مما به عنه مبينا يخبرهذا أحسن الأعاريب وهناك أوجه أخرى للأعراب لا تخلو من مقال.وخص الأكابر بالمكر، لأنهم هم الحاملون لغيرهم على الضلال، وهم الذين يتبعهم الضعفاء في كفرهم وفجورهم.قال ابن كثير: والمراد بالمكر هنا دعاؤهم غيرهم إلى الضلالة بزخرف من المقال والفعال كقوله- تعالى- إخبارا عن قوم نوح وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً، وكقوله: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً ... الآية . وقوله- سبحانه- وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ.أى وما يمكر أولئك الأكابر المجرمون الذين يعادون الرسل والمصلحين في كل وقت إلا بأنفسهم، حيث يعود ضرره عليهم وحدهم في الدنيا والآخرة ولكنهم لانطماس بصيرتهم، لا يشعرون بأن مكرهم سيعود عليهم ضرره، بل يتوهمون أنهم سينجون في مكرهم بغيرهم من الأنبياء والمصلحين.فالجملة الكريمة بيان لسنة من سنن الله في خلقه، وهي أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما يصيبه منهم، وبشارة له، ولأصحابه بالنصر عليهم، ووعيد لأولئك الماكرين بسوء المصير.وجملة وَما يَشْعُرُونَ حال من ضمير يمكرون، وهي تسجل عليهم بلاهتهم وجهالتهم حيث فقدوا الشعور بما من شأنه أن يعترف به كل عاقل.
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
يقول تعالى : وكما جعلنا في قريتك - يا محمد - أكابر من المجرمين ، ورؤساء ودعاة إلى الكفر والصد عن سبيل الله ، وإلى مخالفتك وعداوتك ، كذلك كانت الرسل من قبلك يبتلون بذلك ، ثم تكون لهم العاقبة ، كما قال تعالى : ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا ) [ الفرقان : 31 ] ، وقال تعالى : ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ) [ الإسراء : 16 ] ، قيل : معناه : أمرناهم بالطاعات ، فخالفوا ، فدمرناهم . وقيل : أمرناهم أمرا قدريا ، كما قال هاهنا : ( ليمكروا فيها ) .وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : ( أكابر مجرميها ) قال : سلطنا شرارها فعصوا فيها ، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم بالعذاب .وقال مجاهد وقتادة : ( أكابر مجرميها ) قال عظماؤها .قلت : وهذا كقوله تعالى : ( وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ) [ سبأ : 34 ، 35 ] ، وقال تعالى : ( وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) [ الزخرف : 23 ] .والمراد بالمكر هاهنا دعاؤهم إلى الضلالة بزخرف من المقال والفعال ، كما قال تعالى إخبارا عن قوم نوح : ( ومكروا مكرا كبارا ) [ نوح : 22 ] ، وقال تعالى : ( ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ) [ سبأ : 31 - 33 ] .وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان قال : كل مكر في القرآن فهو عمل .وقوله : ( وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون ) أي : وما يعود وبال مكرهم ذلك وإضلالهم من أضلوه إلا على أنفسهم ، كم قال تعالى : ( وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم ) [ العنكبوت : 13 ] ، وقال ( ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون ) [ النحل : 25 ] .
﴿ تفسير القرطبي ﴾
قوله تعالى وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرونقوله تعالى وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها المعنى : وكما زينا للكافرين ما كانوا يعملون كذلك جعلنا في كل قرية . مجرميها مفعول أول ل " جعل " أكابر مفعول ثان على التقديم والتأخير . وجعل بمعنى صير . والأكابر جمع الأكبر . قال مجاهد : يريد العظماء . وقيل : الرؤساء والعظماء . وخصهم بالذكر لأنهم أقدر على الفساد . والمكر : الحيلة في مخالفة الاستقامة ، وأصله الفتل ; فالماكر يفتل عن الاستقامة أي يصرف عنها . قال مجاهد : كانوا يجلسون على كل عقبة أربعة ينفرون الناس عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ; كما فعل من قبلهم من الأمم السالفة بأنبيائهم .وما يمكرون إلا بأنفسهم أي وبال مكرهم راجع إليهم . وهو من الله عز وجل الجزاء على مكر الماكرين بالعذاب الأليم .وما يشعرون في الحال ; لفرط جهلهم أن وبال مكرهم عائد إليهم .
﴿ تفسير الطبري ﴾
القول في تأويل قوله تعالى : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: وكما زينا للكافرين ما كانوا يعملون, كذلك جعلنا بكل قرية عظماءَها مجرميها= يعني أهل الشرك بالله والمعصية له=(ليمكروا فيها)، بغرور من القول أو بباطل من الفعل، بدين الله وأنبيائه =(وما يمكرون) : أي ما يحيق مكرهم ذلك, إلا بأنفسهم , لأن الله تعالى ذكره من وراء عقوبتهم على صدّهم عن سبيله =" وهم لا يشعرون ", يقول: لا يدرون ما قد أعدّ الله لهم من أليم عذابه, (40) فهم في غيِّهم وعتوِّهم على الله يتمادَوْن .* * *وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .* ذكر من قال ذلك:13847- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: (أكابر مجرميها)، قال: عظماءها .13848- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله .13849- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: (أكابر مجرميها)، قال: عظماءها .13850- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة: نزلت في المستهزئين = قال ابن جريج، عن عمرو, عن عطاء, عن عكرمة: (أكابر مجرميها)، إلى قوله: بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ، بدين الله، وبنبيه عليه الصلاة والسلام وعباده المؤمنين .* * *والأكابر: جمع " أكبر ", كما " الأفاضل " جمع " أفضل " . ولو قيل: هو جمع " كبير ", فجمع " أكابر ", لأنه قد يقال: " أكبر ", كما قيل: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا ، [سورة الكهف: 103]، واحدهم " الخاسر "، لكان صوابًا . وحكي عن العرب سماعًا " الأكابرة " و " الأصاغرة ", و " الأكابر "، و " الأصاغر "، بغير الهاء، على نية النعت, كما يقال: " هو أفضل منك " . وكذلك تفعل العرب بما جاء من النعوت على " أفعل "، إذا أخرجوها إلى الأسماء, مثل جمعهم " الأحمر " و " الأسود "،" الأحامر " و " الأحامرة ", و " الأساود " و " الأساودة "، ومنه قول الشاعر: (41)إنَّ الأحَامِرَة الثَّلاثَةَ أَهْلَكَتْمَالِي, وكُنْتُ بِهِنّ قِدْمًا مُولَعًاالخَمْرُ واللَّحْمُ السِّمِينُ إدَامُهُوالزَّعْفَرَانُ, فَلَنْ أرُوحَ مُبَقَّعَا (42)* * *وأما " المكر "، فإنه الخديعة والاحتيال للممكور به بالغدر، ليورِّطه الماكر به مكروهًا من الأمر .----------------------الهوامش :(40) انظر تفسير (( شعر )) فيما سلف : ص : 38 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .(41) هو الأعشى .(42) ديوانه 247 ، 248 ، وهي في نسختي المصورة من ديوان الأعشى رقم : 29 ، واللسان (حمر ) وهو أول الشعر . وكان في المطبوعة هنا : (( السمين أديمه )) ، و (( فلن أزال مبقعا )) ، وأثبت ما في المخطوطة وفي مخطوطة الأعشى : (( السمين ، وأطلى بالزعفران وقد أروح مبقعًا )) .وهكذا جاء في المخطوطة : (( السمين إدامه )) ، والإدام ما يؤتدم به مع الخبز ، أي شيء كان .وعجيب إضافة الإدام إلى اللحم . ويروى : (( أديمه )) ، ضبطه في اللسان بفتح الألف ، وهو غير مرتضى ، بل الصواب إن شاء الله (( أديمه )) من (( أدام الشيء )) ، إذا أطال زمانه واستمر به .ورواية أبي جعفر هنا (( فلن أروح مبقعًا )) ، ورواية مخطوطة ديوانه : (( وقد أروح مبقعًا )) ، وهي أجودهما . و (( المبقع )) الذي فيه لون يخالف لونه ، أو لون ما أصابه الماء أو الزعفران أو ما شابههما . يعني أنه يكثر من الزعفران حتى يترك في بشرته لمعا . وأكثر ما كانوا يستعملون الزعفران في أعراسهم ، إذا أعرس الرجل تزعفر . فكني بذلك عن كثرة زواجه .وفي البيت روايات أخرى ، راجعها في حواشي ديوانه ، في ذيل الديوان .
﴿ وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون ﴾