سيقول الجهال وضعاف العقول من اليهود وأمثالهم، في سخرية واعتراض: ما الذي صرف هؤلاء المسلمين عن قبلتهم التي كانوا يُصَلُّون إلى جهتها أول الإسلام؛ (وهي "بيت المقدس") قل لهم -أيها الرسول-: المشرق والمغرب وما بينهما ملك لله، فليست جهة من الجهات خارجة عن ملكه، يهدي مَن يشاء من عباده إلى طريق الهداية القويم. وفي هذا إشعار بأن الشأن كله لله في امتثال أوامره، فحيثما وَجَّهَنا تَوَجَّهْنا.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«سيقول السفهاء» الجهال «من الناس» اليهود والمشركين «ما ولاّهم» أي شيء، صرف النبي والمؤمنين «عن قبلتهم التي كانوا عليها» على استقبالها في الصلاة وهي بيت المقدس، والإتيان بالسين الدالة على الاستقبال من الإخبار بالغيب «قل لله المشرق والمغرب» أي الجهات كلها فيأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء لا اعتراض عليه «يهدي من يشاء» هدايته «إلى صراط» طريق «مستقيم» دين الإسلام أي ومنهم أنتم دل على هذا.
﴿ تفسير السعدي ﴾
قد اشتملت الآية على معجزة, وتسلية, وتطمين قلوب المؤمنين, واعتراض وجوابه, من ثلاثة أوجه, وصفة المعترض, وصفة المسلم لحكم الله دينه. فأخبر تعالى أنه سيعترض السفهاء من الناس, وهم الذين لا يعرفون مصالح أنفسهم, بل يضيعونها ويبيعونها بأبخس ثمن, وهم اليهود والنصارى, ومن أشبههم من المعترضين على أحكام الله وشرائعه، وذلك أن المسلمين كانوا مأمورين باستقبال بيت المقدس, مدة مقامهم بمكة، ثم بعد الهجرة إلى المدينة, نحو سنة ونصف - لما لله تعالى في ذلك من الحكم التي سيشير إلى بعضها, وكانت حكمته تقتضي أمرهم باستقبال الكعبة، فأخبرهم أنه لا بد أن يقول السفهاء من الناس: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا وهي استقبال بيت المقدس، أي: أيُّ شيء صرفهم عنه؟ وفي ذلك الاعتراض على حكم الله وشرعه, وفضله وإحسانه، فسلاهم, وأخبر بوقوعه, وأنه إنما يقع ممن اتصف بالسفه, قليل العقل, والحلم, والديانة، فلا تبالوا بهم, إذ قد علم مصدر هذا الكلام، فالعاقل لا يبالي باعتراض السفيه, ولا يلقي له ذهنه. ودلت الآية على أنه لا يعترض على أحكام الله, إلا سفيه جاهل معاند، وأما الرشيد المؤمن العاقل, فيتلقى أحكام ربه بالقبول, والانقياد, والتسليم كما قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ الآية، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وقد كان في قوله السفهاء ما يغني عن رد قولهم, وعدم المبالاة به. ولكنه تعالى مع هذا لم يترك هذه الشبهة, حتى أزالها وكشفها مما سيعرض لبعض القلوب من الاعتراض, فقال تعالى: قُلْ لهم مجيبا: لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أي: فإذا كان المشرق والمغرب ملكا لله, ليس جهة من الجهات خارجة عن ملكه, ومع هذا يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم, ومنه هدايتكم إلى هذه القبلة التي هي من ملة أبيكم إبراهيم، فلأي شيء يعترض المعترض بتوليتكم قبلة داخلة تحت ملك الله, لم تستقبلوا جهة ليست ملكا له؟ فهذا يوجب التسليم لأمره, بمجرد ذلك، فكيف وهو من فضل الله عليكم, وهدايته وإحسانه, أن هداكم لذلك فالمعترض عليكم, معترض على فضل الله, حسدا لكم وبغيا. ولما كان قوله: يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ والمطلق يحمل على المقيد, فإن الهداية والضلال, لهما أسباب أوجبتها حكمة الله وعدله, وقد أخبر في غير موضع من كتابه بأسباب الهداية, التي إذا أتى بها العبد حصل له الهدى كما قال تعالى: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله تعالى : ( سيقول السفهاء ) الجهال ( من الناس ما ولاهم ) صرفهم وحولهم ( عن قبلتهم التي كانوا عليها ) يعني بيت المقدس والقبلة فعلة من المقابلة نزلت في اليهود ومشركي مكة طعنوا في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى مكة ، فقالوا لمشركي مكة : قد تردد على محمد أمره فاشتاق إلى مولده وقد توجه نحو بلدكم وهو راجع إلى دينكم فقال الله تعالى : ( قل لله المشرق والمغرب ) ملك له والخلق عبيده . ( يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم )
﴿ تفسير الوسيط ﴾
تضمنت هذه الآيات الكريمة إعلام النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين أن فريقا من الناس الذين خفت أحلامهم وضعفت عقولهم وعدلوا عما ينفعهم إلى ما يضرهم، سيقولون على سبيل الإنكار عند تحويل القبلة إلى المسجد الحرام، ما صرفهم عن القبلة التي كانوا عليها، وهي بيت المقدس.قال صاحب الكشاف: «فإن قلت، أى فائدة في الإخبار بقولهم قبل وقوعه؟ قلت: فائدته أن مفاجأة المكروه أشد، والعلم به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب إذا وقع، لما يتقدمه من توطين النفس، وأن الجواب العتيد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم وأرد لشغبه».والمراد بالسفهاء اليهود الذين استنكروا تحويل القبلة، ومن لف لفهم من المنافقين ومشركي العرب.وإنما سماهم الله- تعالى- سفهاء لأنهم سفهوا الحق، وجحدوه، وأنكروا نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم.مع علمهم بصدقه في رسالته.وقد صرح البخاري- رحمه الله- بأن المراد بالسفهاء هم اليهود، فقد روى عن البراء بن عازب قال:كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحب أن يتوجه إلى الكعبة، فأنزل الله- تعالى- قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فتوجه نحو الكعبة، وقال السفهاء من الناس- وهم اليهود- ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها.ثم لقن الله- تعالى- نبيه صلّى الله عليه وسلّم الجواب الذي يخرس به ألسنة المعترضين من اليهود وغيرهم، فقال تعالى: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.أى قل لهم- يا محمد- إذا اعترضوا على التحويل: إن الأمكنة كلها لله ملكا وتصرفا وهي بالنسبة إليه متساوية، وله أن يخص بعضها بحكم دون بعض، فإذا أمرنا باستقبال جهة في الصلاة فلحكمة اقتضت الأمر وما على الناس إلا أن يمتثلوا أمره، والمؤمنون ما اتخذوا الكعبة قبلة لهم إلا امتثالا لأمر ربهم، لا ترجيحا لبعض الجهات من تلقاء أنفسهم فالله هو الذي يهدى من يشاء هدايته، إلى السبيل الحق، فيوجه إلى بيت المقدس مدة حيث اقتضت حكمته ذلك، ثم إلى الكعبة، حيث يعلم المصلحة فيما أمر به.
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
[ قيل المراد بالسفهاء هاهنا : المشركون ; مشركو العرب ، قاله الزجاج . وقيل : أحبار يهود ، قاله مجاهد . وقيل : المنافقون ، قاله السدي . والآية عامة في هؤلاء كلهم ، والله أعلم ] .قال البخاري : حدثنا أبو نعيم ، سمع زهيرا ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، رضي الله عنه ; أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا ، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت ، وأنه صلى أول صلاة صلاها ، صلاة العصر ، وصلى معه قوم . فخرج رجل ممن كان صلى معه ، فمر على أهل المسجد وهم راكعون ، فقال : أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة ، فداروا كما هم قبل البيت . وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجالا قتلوا لم ندر ما نقول فيهم ، فأنزل الله عز وجل ( وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم )انفرد به البخاري من هذا الوجه . ورواه مسلم من وجه آخر .وقال محمد بن إسحاق : حدثني إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس ، ويكثر النظر إلى السماء ينتظر أمر الله ، فأنزل الله : ( قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام ) فقال رجال من المسلمين : وددنا لو علمنا علم من مات منا قبل أن نصرف إلى القبلة ، وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس ؟ فأنزل الله : ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) وقال السفهاء من الناس ، وهم أهل الكتاب : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ؟ فأنزل الله : ( سيقول السفهاء من الناس ) إلى آخر الآية .وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا الحسن بن عطية ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ، وكان يحب أن يوجه نحو الكعبة ، فأنزل الله : ( قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام ) قال : فوجه نحو الكعبة . وقال السفهاء من الناس ، وهم اليهود : ( ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ) فأنزل الله ( قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم )وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة ، أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ، ففرحت اليهود ، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم ، فكان يدعو الله وينظر إلى السماء ، فأنزل الله عز وجل : ( فولوا وجوهكم شطره ) أي : نحوه . فارتاب من ذلك اليهود ، وقالوا : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ؟ فأنزل الله : ( قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) .وقد جاء في هذا الباب أحاديث كثيرة ، وحاصل الأمر أنه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر باستقبال الصخرة من بيت المقدس ، فكان بمكة يصلي بين الركنين ، فتكون بين يديه الكعبة وهو مستقبل صخرة بيت المقدس ، فلما هاجر إلى المدينة تعذر الجمع بينهما ، فأمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس ، قاله ابن عباس والجمهور ، ثم اختلف هؤلاء هل كان الأمر به بالقرآن أو بغيره ; على قولين ، وحكى القرطبي في تفسيره عن عكرمة وأبي العالية والحسن البصري أن التوجه إلى بيت المقدس كان باجتهاده عليه الصلاة والسلام . والمقصود أن التوجه إلى بيت المقدس بعد مقدمه صلى الله عليه وسلم المدينة ، فاستمر الأمر على ذلك بضعة عشر شهرا ، وكان يكثر الدعاء والابتهال أن يوجه إلى الكعبة ، التي هي قبلة إبراهيم ، عليه السلام ، فأجيب إلى ذلك ، وأمر بالتوجه إلى البيت العتيق ، فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ، وأعلمهم بذلك . وكان أول صلاة صلاها إليها صلاة العصر ، كما تقدم في الصحيحين من رواية البراء . ووقع عند النسائي من رواية أبي سعيد بن المعلى : أنها الظهر . وأما أهل قباء ، فلم يبلغهم الخبر إلى صلاة الفجر من اليوم الثاني ، كما جاء في الصحيحين ، عن ابن عمر أنه قال : بينما الناس بقباء في صلاة الصبح ، إذ جاءهم آت فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة ، فاستقبلوها . وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة .وفي هذا دليل على أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به ، وإن تقدم نزوله وإبلاغه ; لأنهم لم يؤمروا بإعادة العصر والمغرب والعشاء ، والله أعلم .ولما وقع هذا حصل لبعض الناس من أهل النفاق والريب والكفرة من اليهود ارتياب وزيغ عن الهدى وتخبيط وشك ، وقالوا : ( ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ) أي : ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا ، وتارة يستقبلون كذا ؟ فأنزل الله جوابهم في قوله : ( قل لله المشرق والمغرب ) أي : الحكم والتصرف والأمر كله لله ، وحيثما تولوا فثم وجه الله ، و ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله ) [ البقرة : 177 ] أي : الشأن كله في امتثال أوامر الله ، فحيثما وجهنا توجهنا ، فالطاعة في امتثال أمره ، ولو وجهنا في كل يوم مرات إلى جهات متعددة ، فنحن عبيده وفي تصريفه وخدامه ، حيثما وجهنا توجهنا ، وهو تعالى له بعبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه وأمته عناية عظيمة ; إذ هداهم إلى قبلة إبراهيم ، خليل الرحمن ، وجعل توجههم إلى الكعبة المبنية على اسمه تعالى وحده لا شريك له ، أشرف بيوت الله في الأرض ، إذ هي بناء إبراهيم الخليل ، عليه السلام ، ولهذا قال : ( قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) .وقد روى الإمام أحمد ، عن علي بن عاصم ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن عمر بن قيس ، عن محمد بن الأشعث ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني في أهل الكتاب : " إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة ، التي هدانا الله لها وضلوا عنها ، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها ، وعلى قولنا خلف الإمام : آمين " .
﴿ تفسير القرطبي ﴾
قوله تعالى : سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيمفيه إحدى عشرة مسألة الأولى : قوله تعالى : سيقول السفهاء من الناس أعلم الله تعالى أنهم سيقولون في تحويل المؤمنين من الشام إلى الكعبة ما ولاهم . وسيقول بمعنى قال ، جعل المستقبل موضع الماضي ، دلالة على استدامة ذلك وأنهم يستمرون على ذلك القول . وخص بقوله : من الناس لأن السفه يكون في جمادات وحيوانات . والمراد من السفهاء جميع من قال : ما ولاهم . والسفهاء جمع ، واحده سفيه ، وهو الخفيف العقل ، من قولهم : ثوب سفيه إذا كان خفيف النسج ، وقد تقدم . والنساء سفائه . وقال المؤرج : السفيه البهات الكذاب المتعمد خلاف ما يعلم . قطرب : الظلوم الجهول ، والمراد بالسفهاء هنا اليهود الذين بالمدينة ، قاله مجاهد . السدي : المنافقون . الزجاج : كفار قريش لما أنكروا تحويل القبلة قالوا : قد اشتاق محمد إلى مولده وعن قريب يرجع إلى دينكم ، وقالت اليهود : قد التبس عليه أمره وتحير . وقال المنافقون : ما ولاهم عن قبلتهم ، واستهزءوا بالمسلمين . وولاهم يعني عدلهم وصرفهم .الثانية : روى الأئمة واللفظ لمالك عن ابن عمر قال : بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن ، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها ، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة . وخرج البخاري عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا ، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت ، وإنه صلى أول صلاة صلاها العصر وصلى معه قوم ، فخرج رجل ممن كان صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال : أشهد بالله ، لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة ، فداروا كما هم قبل البيت . وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم ، فأنزل الله عز وجل : وما كان الله ليضيع إيمانكم ، ففي هذه الرواية صلاة العصر ، وفي رواية مالك صلاة الصبح . وقيل : نزل ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد بني سلمة وهو في صلاة الظهر بعد ركعتين منها فتحول في الصلاة ، فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين . وذكر أبو الفرج أن عباد بن نهيك كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الصلاة . وذكر أبو عمر في التمهيد عن نويلة بنت أسلم وكانت من المبايعات ، قالت : كنا في صلاة الظهر فأقبل عباد بن بشر بن قيظي فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل القبلة - أو قال : البيت الحرام - فتحول الرجال مكان النساء ، وتحول النساء مكان الرجال . وقيل : إن الآية نزلت في غير صلاة ، وهو الأكثر . وكان أول صلاة إلى الكعبة العصر ، والله أعلم .وروي أن أول من صلى إلى الكعبة حين صرفت القبلة عن بيت المقدس أبو سعيد بن المعلى وذلك أنه كان مجتازا على المسجد فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بتحويل القبلة على المنبر وهو يقرأ هذه الآية : قد نرى تقلب وجهك في السماء حتى فرغ من الآية ، فقلت لصاحبي : تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكون أول من صلى فتوارينا نعما فصليناهما ، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس الظهر يومئذ . قال أبو عمر : ليس لأبي سعيد بن المعلى غير هذا الحديث ، وحديث : " كنت أصلي " في فضل الفاتحة ، خرجه البخاري ، وقد تقدم .الثالثة : واختلف في وقت تحويل القبلة بعد قدومه المدينة ، فقيل : حولت بعد ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا ، كما في البخاري . وخرجه الدارقطني عن البراء أيضا . قال : صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا نحو بيت المقدس ، ثم علم الله هوى نبيه فنزلت : قد نرى تقلب وجهك في السماء الآية . ففي هذه الرواية ستة عشر شهرا من غير شك . وروى مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن تحويلها كان قبل غزوة بدر بشهرين . قال إبراهيم بن إسحاق : وذلك في رجب من سنة اثنتين . وقال أبو حاتم البستي : صلى المسلمون إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرا وثلاثة أيام سواء ، وذلك أن قدومه المدينة كان يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول ، وأمره الله عز وجل باستقبال الكعبة يوم الثلاثاء للنصف من شعبان .الرابعة : واختلف العلماء أيضا في كيفية استقباله بيت المقدس على ثلاثة أقوال ، فقال الحسن : كان ذلك منه عن رأي واجتهاد ، وقاله عكرمة وأبو العالية . الثاني : أنه كان مخيرا بينه وبين الكعبة ، فاختار القدس طمعا في إيمان اليهود واستمالتهم ، قاله الطبري ، وقال الزجاج : امتحانا للمشركين لأنهم ألفوا الكعبة . الثالث : وهو الذي عليه الجمهور : ابن عباس وغيره ، وجب عليه استقباله بأمر الله تعالى ووحيه لا محالة ، ثم نسخ الله ذلك وأمره الله أن يستقبل بصلاته الكعبة ، واستدلوا بقوله تعالى : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه الآية .الخامسة : واختلفوا أيضا حين فرضت عليه الصلاة أولا بمكة ، هل كانت إلى بيت المقدس أو إلى مكة ، على قولين ، فقالت طائفة : إلى بيت المقدس وبالمدينة سبعة عشر شهرا ، ثم صرفه الله تعالى إلى الكعبة ، قاله ابن عباس . وقال آخرون : أول ما افترضت الصلاة عليه إلى الكعبة ، ولم يزل يصلي إليها طول مقامه بمكة على ما كانت عليه صلاة إبراهيم وإسماعيل ، فلما قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا ، على الخلاف ، ثم صرفه الله إلى الكعبة . قال أبو عمر : وهذا أصح القولين عندي . قال غيره : وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة أراد أن يستألف اليهود فتوجه [ إلى ] قبلتهم ليكون ذلك أدعى لهم ، فلما تبين عنادهم وأيس منهم أحب أن يحول إلى الكعبة فكان ينظر إلى السماء ، وكانت محبته إلى الكعبة لأنها قبلة إبراهيم ، عن ابن عباس . وقيل : لأنها كانت أدعى للعرب إلى الإسلام ، وقيل : مخالفة لليهود ، عن مجاهد . وروي عن أبي العالية الرياحي أنه قال : كانت مسجد صالح عليه السلام وقبلته إلى الكعبة ، قال : وكان موسى عليه السلام يصلي إلى الصخرة نحو الكعبة ، وهي قبلة الأنبياء كلهم ، صلوات الله عليهم أجمعين .السادسة : في هذه الآية دليل واضح على أن في أحكام الله تعالى وكتابه ناسخا ومنسوخا ، وأجمعت عليه الأمة إلا من شذ ، كما تقدم . وأجمع العلماء على أن القبلة أول ما نسخ من القرآن ، وأنها نسخت مرتين ، على أحد القولين المذكورين في المسألة قبل .السابعة : ودلت أيضا على جواز نسخ السنة بالقرآن ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس ، وليس في ذلك قرآن ، فلم يكن الحكم إلا من جهة السنة ثم نسخ ذلك بالقرآن ، وعلى هذا يكون : " كنت عليها " بمعنى أنت عليها .الثامنة : وفيها دليل على جواز القطع بخبر الواحد ، وذلك أن استقبال بيت المقدس كان مقطوعا به من الشريعة عندهم ، ثم إن أهل قباء لما أتاهم الآتي وأخبرهم أن القبلة قد حولت إلى المسجد الحرام قبلوا قوله واستداروا نحو الكعبة ، فتركوا المتواتر بخبر الواحد وهو مظنون .وقد اختلف العلماء في جوازه عقلا ووقوعه ، فقال أبو حاتم : والمختار جواز ذلك عقلا لو تعبد الشرع به ، ووقوعا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل قصة قباء ، وبدليل أنه كان عليه السلام ينفذ آحاد الولاة إلى الأطراف وكانوا يبلغون الناسخ والمنسوخ جميعا . ولكن ذلك ممنوع بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ، بدليل الإجماع من الصحابة على أن القرآن والمتواتر المعلوم لا يرفع بخبر الواحد ، فلا ذاهب إلى تجويزه من السلف والخلف . احتج من منع ذلك بأنه يفضي إلى المحال وهو رفع المقطوع بالمظنون . وأما قصة أهل قباء وولاة النبي صلى الله عليه وسلم فمحمول على قرائن إفادة العلم إما نقلا وتحقيقا ، وإما احتمالا وتقديرا . وتتميم هذا سؤالا وجوابا في أصول الفقه .التاسعة : وفيها دليل على أن من لم يبلغه الناسخ إنه متعبد بالحكم الأول ، . خلافا لمن قال : إن الحكم الأول يرتفع بوجود الناسخ لا بالعلم به ، والأول أصح ; لأن أهل قباء لم يزالوا يصلون إلى بيت المقدس إلى أن أتاهم الآتي فأخبرهم بالناسخ فمالوا نحو الكعبة . فالناسخ إذا حصل في الوجود فهو رافع لا محالة لكن بشرط العلم به ; لأن الناسخ خطاب ، ولا يكون خطابا في حق من لم يبلغه . وفائدة هذا الخلاف في عبادات فعلت بعد النسخ وقبل البلاغ هل تعاد أم لا ، وعليه تنبني مسألة الوكيل في تصرفه بعد عزل موكله أو موته وقبل علمه بذلك على قولين . وكذلك المقارض والحاكم إذا مات من ولاه أو عزل . والصحيح أن ما فعله كل واحد من هؤلاء ينفذ فعله ولا يرد حكمه . قال القاضي عياض : ولم يختلف المذهب في أحكام من أعتق ولم يعلم بعتقه أنها أحكام حر فيما بينه وبين الناس ، وأما بينه وبين الله تعالى فجائزة . ولم يختلفوا في المعتقة أنها لا تعيد ما صلت بعد عتقها وقبل علمها بغير ستر ، وإنما اختلفوا فيمن يطرأ عليه موجب يغير حكم عبادته وهو فيها ، قياسا على مسألة قباء ، فمن صلى على حال ثم تغيرت به حاله تلك قبل أن يتم صلاته إنه يتمها ولا يقطعها ويجزيه ما مضى . وكذلك كمن صلى عريانا ثم وجد ثوبا في الصلاة ، أو ابتدأ صلاته صحيحا فمرض ، أو مريضا فصح ، أو قاعدا ثم قدر على القيام ، أو أمة عتقت وهي في الصلاة إنها تأخذ قناعها وتبني .قلت : وكمن دخل في الصلاة بالتيمم فطرأ عليه الماء إنه لا يقطع ، كما يقوله مالك والشافعي - رحمهما الله - وغيرهما . وقيل : يقطع ، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وسيأتي .العاشرة : وفيها دليل على قبول خبر الواحد ، وهو مجمع عليه من السلف معلوم بالتواتر من عادة النبي صلى الله عليه وسلم في توجيهه ولاته ورسله آحادا للآفاق ، ليعلموا الناس دينهم فيبلغوهم سنة رسولهم صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي .الحادية عشرة : وفيها دليل على أن القرآن كان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا بعد شيء وفي حال بعد حال على حسب الحاجة إليه ، حتى أكمل الله دينه ، كما قال : اليوم أكملت لكم دينكم .قوله تعالى : قل لله المشرق والمغرب أقامه حجة ، أي له ملك المشارق والمغارب وما بينهما ، فله أن يأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء ، وقد تقدم .قوله تعالى : يهدي من يشاء إشارة إلى هداية الله تعالى هذه الأمة إلى قبلة إبراهيم ، والله تعالى أعلم . والصراط الطريق . والمستقيم : الذي لا اعوجاج فيه ، وقد تقدم .
﴿ تفسير الطبري ﴾
القول في تأويل قوله تعالى : سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِقال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: " سيقول السفهاء "، سيقول الجهال " منَ الناس ", وهم اليهود وأهل النفاق.وإنما سماهم الله عز وجل " سُفهاء "، لأنهم سَفِهوا الحق. (1) فتجاهلت أحبارُ اليهود, وتعاظمت جهالهم وأهل الغباء منهم، عن اتِّباع محمد صلى الله عليه وسلم, إذ كان من العرب ولم يكن من بني إسرائيل, وتحيّر المنافقون فتبلَّدوا.* * *وبما قلنا في" السفهاء " -أنهم هم اليهود وأهلُ النفاق- قال أهل التأويل.ذكر من قال: هم اليهود:2142- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله عز وجل: " سيقول السفهاء من الناس مَا وَلاهم عن قِبْلتهم " قال، اليهود تقوله، حين تَرَك بيتَ المقدس.2143- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله.2144- حدثت عن أحمد بن يونس, عن زهير, عن أبي إسحاق، عن البَراء: " سيقول السفهاء من الناس " قال، اليهود. (2)2145- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع, عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن البراء: " سيقول السفهاء من الناس " قال، اليهود.2146- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن أبي إسحاق, عن البراء في قوله: " سيقول السفهاء من الناس " قال، أهل الكتاب2147- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قال: اليهودُ.* * *وقال آخرون: " السفهاء "، المنافقون.* ذكر من قال ذلك.2148- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: نزلت " سَيقول السفهاء من الناس "، في المنافقين.* * *القول في تأويل قوله تعالى : مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَاقال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: " ما ولاهم ": أيُّ شيء صَرَفهم عن قبلتهم؟ وهو من قول القائل: " ولاني فلان دُبُره "، إذا حوّل وجهه عنه واستدبره، فكذلك قوله: " ما ولاهم "؟ أيّ شيء حَوَّل وُجُوههم؟ (3)* * *وأما قوله: " عن قبلتهم "، فإن " قبلة " كل شيء ما قابلَ وجهه. وإنما هي" فِعْلة " بمنزلة " الجلسة والقِعْدة "، (4) من قول القائل." قابلت فلانًا "، إذا صرتُ قُبالته أقابله, فهو لي" قبلة " وأنا له " قبلة ", إذا قابل كلّ واحد منهما بوجهه وجهَ صاحبه.* * *قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا -إذْ كان ذلك معناه (5) -: سيقول السفهاء من الناس لكم، أيها المؤمنون بالله ورسوله, - إذا حوّلتم وجوهكم عَن قبلة اليهود التي كانتْ لكم قبلةً قَبلَ أمري إياكم بتحويل وجوهكم عنها شَطْر المسجد الحرام -: أيّ شيء حوّل وُجوه هؤلاء, فصرفها عن الموضع الذي كانوا يستقبلونه بوجوههم في صلاتهم؟فأعلم الله جل ثناؤه نبيَّه صلى الله عليه وسلم، مَا اليهودُ والمنافقون قائلون من القول عند تحويل قبلته وقبلة أصحابه عن الشأم إلى المسجد الحرام, وعلّمه ما ينبغي أن يكون من ردِّه عليهم من الجواب. فقال له: إذا قالوا ذلك لك يا محمد, فقل لهم: لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ .* * *وكان سببُ ذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم صلّى نحو بيت المقدس مُدة سنذكر مبلغها فيما بعد إن شاء الله تعالى، ثم أراد الله تعالى صَرْف قبلة نبيّة صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام. فأخبره عما اليهود قائلوه من القول عند صرفه وجهَه ووجهَ أصحابه شطرَه, وما الذي ينبغي أن يكون من ردِّه عليهم من الجواب.* * *ذكر المدة التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحو بيت المقدس، وما كان سببُ صلاته نحوه؟ وما الذي دَعا اليهودَ والمنافقين إلى قِيلِ ما قالوا عند تحويل الله قبلةَ المؤمنين عن بيت المقدس إلى الكعبة؟اختلف أهل العلم في المدة التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس بعد الهجرة. فقال بعضهم بما:-2149- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير -وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة- قالا جميعًا : حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد قال، أخبرني سعيد بن جبير، أو عكرمة -شكّ محمد-، عن ابن عباس قال: لما صُرفت القبلةُ عن الشأم إلى الكعبة -وصرفت في رَجَب، على رأس سبعة عشر شهرًا من مَقدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ- أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رفاعةُ بنُ قيس, وقَرْدَم بن عمرو, وكعبُ بن الأشرف, ونافعُ بن أبي نافع - هكذا قال ابن حميد, وقال أبو كريب: ورَافع بن أبي رافع (6) - والحجاج بن عمرو = حليفُ كعب بن الأشرف = والربيعُ بن الربيعُ بن [أبي] الحقيق، وكنانةُ بن أبي الحقيق، (7) فقالوا: يا محمد، ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها، وأنتَ تزعمُ أنك على ملة إبراهيم ودينه؟ ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعْك ونصدقك! وإنما يريدون فتنته عن دينه. فأنزل الله فيهم: " سيقول السفهاءُ من الناس مَا ولاهم عنْ قبلتهم التي كانوا عليها " إلى قوله: إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ . (8)2150- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش, قال البراء: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس سَبعةَ عشر شهرًا, وكان يشتهي أن يُصرف إلى الكعبة. قال: فبينا نحن نُصلي ذاتَ يوم, فمر بنا مارٌّ فقال: ألا هلْ علمتم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد صُرف إلى الكعبة؟ قال: وقد صلينا ركعتين إلى هاهنا, وصلينا ركعتين إلى هاهنا - قال أبو كريب: فقيل له: فيه أبو إسحاق؟ فسكت. (9)2151- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن أبي بكر بن عياش, عن أبي إسحاق, عن البراء قال: صلينا بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ سبعة عشر شهرًا إلى بيت المقدس. (10)2152- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى, عن سفيان قال، حدثنا أبو إسحاق، عن البراء بن عازب قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعةَ عشر شهرًا -شك سفيان- ثم صُرفنا إلى الكعبة. (11)2153- حدثني المثنى قال، حدثنا الُّنفيلي قال، حدثنا زهير قال: حدثنا أبو إسحاق, عن البراء: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أوَّلَ ما قَدم المدينة، نزلَ على أجداده -أو أخواله- من الأنصار, وأنه صَلَّى قِبَل بيت المقدس ستة عشر شهرًا, وكان يعجبه أن تكون قبلته قبَلَ البيت, وأنه صلى صلاة العصر ومعه قومٌ. فخرج رجل ممن صلى معه, فمرّ على أهل المسجد وهم رُكوع فقال: أشهدُ لقد صلَّيت مع رسول الله قبلَ مكة. فداروا كما همْ قِبَل البيت. وكانَ يُعجبه أن يحوَّل قبَل البيت. وكان اليهودُ أعجبهم أنّ رسول الله صلى الله علايه وسلم يُصَلّي قبَل بيت المقدس وأهلُ الكتاب, فلما ولَّى وجْهه قبَل البيت أنكروا ذلك. (12)2154- حدثني عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث قال، حدثنا يحيى بن سعيد, عن ابن المسيب قال: صلى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس بَعْد أن قدِم المدينةَ ستة عشر شهرًا, ثم وُجِّه نحو الكعبة قَبل بَدْرٍ بشهرين. (13)* * *وقال آخرون بما:-2155- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عثمان بن سعد الكاتب قال، حدثنا أنس بن مالك قال: صلى نبي الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس تسعة أشهر أو عشرة أشهر. فبينما هو قائمٌ يصلي الظهر بالمدينة وقد صلى ركعتين نحو بيت المقدس, انصرف بوَجْهه إلى الكعبة, فقال السفهاء: " ما وَلاهُم عن قبلتهم التي كانوا عَليها ". (14)* * *وقال آخرون بما:-2156- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا المسعودي, عن عمرو بن مرة, عن ابن أبي ليلى, عن معاذ بن جبل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ثَلاثة عَشر شهرًا. (15)2157- حدثنا أحمد بن المقدام العجلي قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أبي قال، حدثنا قتادة, عن سعيد بن المسيب: أنّ الأنصار صلَّت القبلةَ الأولى، قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث حجج, وأن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى القبلةَ الأولى بعد قُدومه المدينة ستة عشر شهرًا، أو كما قال. وكلا الحديثين يحدِّث قتادة عن سعيد.* * *ذكر السبب الذي كان من أجله يُصلِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس، قبل أن يُفرض عليه التوجُّه شطرَ الكعبة.* * *اختلف أهلُ العلم في ذلك.فقال بعضهم: كان ذلك باختيار من النبي صلى الله عليه وسلمذكرُ من قال ذلك:2158- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح أبو تَميلة قال، حدثنا الحسين بن واقد, عن عكرمة -وعن يزيد النحويّ, عن عكرمة- والحسن البصري قالا أوَّلُ ما نُسخ من القرآن القبلةُ. وذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يستقبل صَخرَة بيت المقدس، وهي قبلة اليهودِ, فاستقبلها النبيّ صلى الله عليه وسلم سبعةَ عشر شهرًا, ليؤمنوا به ويتبعوه, ويدعو بذلك الأميين من العرب. فقال الله عز وجل: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [سورة البقرة: 115].2159- حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: " سيقولُ السفهاء من الناس مَا وَلاهم عَن قبلتهم التي كانوا عليها "، يعنون بيتَ المقدس. قال الربيع. قال أبو العالية : إنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم خُيّر أن يوجِّه وجهه حيث شاء, فاختار بيت المقدس لكي يتألَّف أهلَ الكتاب, فكانت قبلتهُ ستة عشر شهرًا, وهو في ذلك يقلِّب وَجهه في السماء، ثم وَجَّهه الله إلى البيت الحرام.* * *وقال آخرون: بل كان فعلُ ذلك -من النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه- بفرض الله عز ذكره عليهم.* ذكر من قال ذلك:2160- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قال: لما هاجَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة, وكان [أكثرَ] أهلها اليهودُ, أمَره الله أن يستقبل بيتَ المقدس. ففرحت اليهود. فاستقبلها رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بضْعة عَشر شَهرًا, فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحبّ قبلةَ إبراهيم عليه السلام, وكان يدعو وينظر إلى السماء. فأنزل الله عز وجل: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [سورة البقرة: 144] الآية. فارتاب من ذلك اليهود وقالوا: " ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها "؟ فأنزل الله عز وجل: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ . (16)2161- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أوَّلَ ما صلى إلى الكعبة, ثم صُرف إلى بَيت المقدس. فصلَّت الأنصارُ نحو بيت المقدس قبلَ قُدومه ثلاث حِجَجٍ: وصلّى بعد قُدومه ستة عشر شهرًا, ثم ولاه الله جل ثناؤه إلى الكعبة.* * *ذكر السبب الذي من أجله قال من قال " ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها "؟* * *اختلف أهل التأويل في ذلك. فرُوي عن ابن عباس فيه قولان. أحدهما ما:-2162- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد, عن عكرمة, أو عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: قال ذلك قومٌ من اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم, فقالوا له: ارجِعْ إلى قبلتك التي كنت عليها نتَّبعك ونصدّقك! يريدون فتنتَهُ عن دينه. (17)والقول الآخر: ما ذكرتُ من حَديث علي بن أبي طلحة عنه الذي مضى قبل. (18)* * *2163- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, عن سعيد, عن قتادة قوله: " سيقول السفهاءُ من الناس ما وَلاهم عن قبلتهم التي كانوا عَليها "؟ قال: صلَّت الأنصار نحو بيت المقدس حَولين قَبْل قُدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ وصلى نبي الله صلى الله عليه وسلم بعدَ قدومه المدينة مهاجرًا، نحو بيت المقدس، ستة عشر شَهرًا، ثم وجَّهه اللهُ بعد ذلك إلى الكعبة البيتِ الحرام. فقال في ذلك قائلون من الناس: " ما ولاهمْ عَنْ قبلتهم التي كانوا عليها "؟ لقد اشتاق الرَّجُل إلى مَوْلده! فقال الله عز وجل: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ .* * *وقيل: قائل هذه المقالة المنافقون. وإنما قالوا ذلك استهزاءً بالإسلام.* ذكر من قال ذلك:2164- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط, عن السدي, قال: لما وُجِّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم قبَلَ المسجد الحرام، اختلفَ الناس فيها فكانوا أصنافًا. فقال المنافقون: ما بالُهم كانوا على قبلة زمانًا، ثم تركوها وتوجَّهوا إلى غيرها؟ فأنزل الله في المنافقين: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ ، الآية كلها.* * *القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)قال أبو جعفر: يعني بذلك عز وجل: قُلْ يا محمد -لهؤلاء الذين قالوا لك ولأصحابك: ما ولاكم عن قبلتكم من بيت المقدس، التي كنتم على التوجُّه إليها, إلى التوجُّه إلى شطر المسجد الحرام؟-: لله مُلك المشرق والمغرب = يعني بذلك: ملكُ ما بين قُطرَيْ مشرق الشمس, وقُطرَيْ مغربها, وما بينهما من العالم (19) = يَهدي من يشاء من خلقه، (20) فيُسدده, ويوفِّقه إلى الطريق القويم، وهو " الصراط المستقيم " (21) -ويعني بذلك: إلى قبلة إبراهيمَ الذي جعله للناس إمامًا- ويخذُل من يشاء منهم، فيضلُّه عن سبيل الحق.* * *وإنّما عنى جل ثناؤه بقوله: " يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"، قُلْ يا محمد: إنّ الله هَدانا بالتوجُّه شطرَ المسجد الحرام لقبلة إبراهيم، وأضلَّكم -أيها اليهودُ والمنافقون وجماعةُ الشرك بالله- فخذلكم عما هدانا لهُ من ذلك.-----------------الهوامش :(1) سفه الحق : جهله . وانظر ما سلف في معنى"السفه" 1 : 293-294 / ثم هذا الجزء 3 : 90 .(2) الأثر : 2144- هذا إسناد ليس بذاك ، فإن الطبري رواه عن شخص مبهم ، عن أحمد بن يونس ، وهو أحمد بن عبد الله بن يونس التميمي . وهو ثقة ، أخرج له الجماعة ، وقد ينسب إلى جده . ولد سنة 133 ، أو 134 ، ومات سنة 227 . مترجم في التهذيب ، والكبير 1/2/6 ، والصغير ، ص : 239 ، وابن أبي حاتم 1/1/57 . وابن سعد 6 : 283 . زهير : هو ابن معاوية أبو خيثمة الكوفي . ثقة ثبت معروف . وأبو إسحاق : هو السبيعي ، عمرو بن عبد الله . التابعي الكبير المشهور ، البراء : هو ابن عازب الصحابي .(3) انظر ما سلف في معنى"ولي" 2 : 162 ، وهذا الجزء 3 : 115 .(4) انظر ما قال من ذلك في"الحكمة" في هذا الجزء 3 : 87 .(5) في المطبوعة : "إذ كان معناه" بإسقاط"ذلك" ، ولا يقوم الكلام إلا بها .(6) انظر ما سلف في هذا الجزء 3 : 111 تعليق : 1 .(7) الزيادة بين القوسين من سيرة ابن هشام . وفيها : "وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق" .(8) الأثر : 2149- نص ما في سيرة ابن هشام 2 : 198-199 .(9) الحديث : 2150- أبو بكر بن عياش : ثقة معروف ، إلا أنهم أخذوا عليه بعض الأخطاء ، لأنه لما كبر ساء حفظه وتغير . وهو هنا يروى الحديث -منقطعًا- عن البراء ، لأنه لم يدركه . وقد سأله بعض سامعيه ، كما حكى أبو كريب في آخر الحديث : "فيه : أبو إسحاق"؟ يريد السائل أن يستوثق منه : أسمعه من أبي إسحاق السبيعي عن البراء؟ فسكت ولم يجبه . ولو كان هذا وحده كان الحديث ضعيفًا . ولكنه ثابت من رواية أبي إسحاق السبيعي عن البراء ، في الأسانيد الثلاثة التالية -وأولها من رواية ابن عياش نفسه- ومن مصادر الحديث الأخر ، كما سيأتي .(10) الحديث : 2151- هذا إسناد ضعيف ، لضعف سفيان بن وكيع - شيخ الطبري . ولكنه يتقوى بالروايات الآتية وغيرها .وقد رواه ابن ماجه : 1010 ، عن علقمة بن عمرو الدارمي ، عن أبي بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، مطولا . وذكر فيه أن صلاتهم إلى بيت المقدس كانت"ثمانية عشر شهرًا" . وعلقمة بن عمرو الدارمي : ثقة . وقال البوصيري في زوائد ابن ماجه : "حديث البراء صحيح ، ورجاله ثقات" .(11) الحديث : 2152- هذا إسناد صحيح جدًا . يحيى : هو ابن سعيد القطان . سفيان : هو الثوري . والحديث مختصر . وهكذا رواه البخاري 8 : 132 (فتح الباري) ومسلم 1 : 148 - كلاهما من طريق يحيى ، عن سفيان ، به ، مختصرًا .(12) الحديث : 2153- وهذه رواية مفصلة . والإسناد صحيح جدًا . رواه الإمام أحمد في المسند 4 : 283 (حلبي) ، عن حسن بن موسى ، عن زهير وهو ابن معاوية . بهذا الإسناد نحوه . بأطول منه . ورواه ابن سعد في الطبقات 1/2/5 ، عن الحسن بن موسى ، بهذا الإسناد . وكذلك رواه البخاري 1 : 89-90 ، عن عمرو بن خالد ، عن زهير ، به . ورواه أيضًا 8 : 130 ، عن أبي نعيم ، عن زهير ، مختصرًا قليلا .ورواه أيضًا البخاري 1 : 421-422 ، و 13 : 202 . ومسلم 1 : 148 ، من أوجه ، عن البراء بن عازب .وسيأتي باقيه بهذا الإسناد : 2222 .(13) الحديث : 2154- عمران بن موسى بن حيان القزاز الليثي ، شيخ الطبري : ثقة . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 3/1/305-306 .عبد الوارث : هو ابن سعيد بن ذكوان ، أحد الأعلام ، يحيى بن سعيد : هو الأنصاري البخاري ثقة حجة ، من شيوخ الزهري ومالك والثوري وغيرهم .ابن المسيب : هو سعيد بن المسيب الإمام التابعي الكبير ، ووقع في المطبوعة"المسيب" ، بحذف"ابن"! وهو خطأ واضح من الناسخين .وهذا الحديث مرسل ، كما هو مبين ، وكذلك رواه مالك في الموطأ ، ص 196 ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب مرسلا . وكذلك رواه الشافعي عن مالك ، في الرسالة ، بتحقيقنا ، رقم 366 . وكذلك رواه ابن سعد في الطبقات 1/2/4 ، عن يزيد بن هارون ، عن يحيى بن سعيد .وقد وصله العطاردي . من حديث سعد بن أبي وقاص : فرواه البيهقي في السنن الكبرى 2 : 3 ، من طريق أحمد بن عبد الجبار العطاردي : "حدثنا محمد بين الفضيل ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب قال ، سمعت سعدًا يقول . . . " . فذكر الحديث . ثم قال البيهقي : "هكذا رواه العطاردي عن ابن فضيل . ورواه مالك ، والثوري ، وحماد بن زيد - عن يحيى بن سعيد ، عن ابن المسيب ، مرسلا دون ذكر سعد" .وهذا إسناد جيد ، يصلح متابعة جيدة للرواية المرسلة . فإن"أحمد بن عبد الجبار العطاردي" : قد مضى في : 66 أن أبا حاتم قال فيه : "ليس بقوي" . ولكن المتأمل في ترجمته في التهذيب 1 : 51-52 ، وتاريخ بغداد 4 : 262-265 - يرى أن توثيقه أرجح ، وأن الكلام فيه لم يكن عن بينة . ولذلك قال الخطيب : "كان أبو كريب من الشيوخ الكبار ، الصادقين الأبرار وأبو عبيدة السري ابن يحيى شيخ جليل أيضًا ثقة ، من طبقة العطاردي . وقد شهد له أحدهما بالسماع ، والآخر بالعدالة . وذلك يفيد حسن حالته ، وجواز روايته . إذ لم يثبت لغيرهما قول يوجب إسقاط حديثه ، واطراح خبره" . وهذا كاف في قبول زيادته في هذا الحديث ، بوصله من رواية سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص .(14) الحديث : 2155- عمرو بن علي : هو الفلاس ، مضت ترجمته : 1989 .أبو عاصم : هو النيل ، واسمه"الضحاك بن مخلد" ، وهو فقيه ثقة حافظ ، من شيوخ أحمد وإسحاق وابن المديني وغيرهم من الأئمة . مترجم في التهذيب ، والكبير 2/2/337 ، والصغير : 231 ، وابن سعد 7/2/49 ، وابن أبي حاتم2/1/463 ، والجمع بين رجال الصحيحين 228-229 . وكان نبيلا حقًا ، صفة ولقبًا . قال البخاري في الكبير : "سمعت أبا عاصم يقول : ما اغتبت أحدًا منذ علمت أن الغيبة تضر أهلها" . ولد سنة 122 ، ومات سنة 212 وهو ابن 90 سنة و 4 أشهر ولدته أمه وعمرها 12 سنة . رحمهما الله .عثمان بن سعد التميمي الكاتب المعلم : ثقة ، وثقه أبو نعيم ، والحاكم وغيرهما ، وتكلم فيه بعضهم بغير حجة, ونقل بعضهم عن النسائي أنه قال : "ليس بثقة" ، ونقل الحافظ أنه رأى بخط ابن عبد الهادي : "الصواب في قول النسائي : أنه ليس بالقوي" . وهذا هو الصواب عن النسائي ، وهو الذي في كتاب الضعفاء له ، ص : 22 . وترجمه ابن أبي حاتم 3/1/153 ، وقال : "سمع أنس بن مالك" . وسماعه من أنس ثابت عندنا في حديث آخر في المسند : 13201 .فهذا الإسناد -عندنا- صحيح . والحديث ذكره السيوطي في الدر المنثور 1 : 143 ، ونسبه البزار وابن جرير . وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 2 : 13 ، وقال : "رواه البزار ، وفيه عثمان بن سعد ، ضعفه يحيى القطان وابن معين وأبو زرعة ، ووثقه ابو نعيم الحافظ ، وقال أبو حاتم : شيخ" . وقال الهيثمي أيضًا : "حديث أنس في الصحيح ، إلا أنه جعل ذلك في صلاة الصبح ، وهنا : الظهر" . يشير بذلك إلى أن أصله في الصحيح ، وهو الحديث في صحيح مسلم 1 : 148 ، من رواية حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس ، بنحوه ، وفيه : "فمر رجل من بني سلمة ، وهم ركوع في صلاة الفجر ، فنادى : ألا إن القبلة قد حولت! فمالوا كما هم نحو القبلة" . وكذلك رواه ابن سعد 1/2/4 ، من طريق حماد بن سلمة . ومن الواضح أن هذه قصة غير التي رواها الطبري هنا . فإن الذي هنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي انصرف بوجهه إلى الكعبة . فهذا أول تحويل القبلة . وأما رواية مسلم فتلك بشأن جماعة آخرين ، في مسجد قباء ، جاءهم مخبر فأخبرهم وهم في الصلاة بتحويل القبلة ، فاستداروا إليها . كما ثبت في الصحيحين وغيرهما ، من حديث عبد الله بن عمر . وهو في المسند : 4642 ، 4794 ، 5934 ، 5827 .(15) الحديث : 2156- أبو داود : هو الطيالسي الإمام الحافظ ، واسمه : "سليمان بن داود بن الجارود" . مترجم في التهذيب ، والكبير 2/2/11 ، وابن سعد 7/2/51 ، وابن أبي حاتم 2/1/111-113 ، مات سنة 203 عن 92 سنة لم يستكملها ، كما قال ابن سعد .المسعودي : هو عبد الرحمن بن عبد لله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود ، وهو ثقة ، تغير حفظه في آخر عمره . مترجم في التهذيب ، وابن أبي حاتم 2/2/250-252 . وترجمنا له في شرح المسند مرارًا ، آخرها في الحديث : 7105 .ابن أبي ليلى : هو عبد الرحمن ، التابعي المشهور . ولكنه لم يسمع من معاذ بن جبل ، كما جزم بذلك علي بن المديني والترمذي وابن خزيمة ، لأنه ولد سنة وفاة معاذ أو قبلها أو بعدها بقليل .فهذا الإسناد منقطع .والحديث بهذا الإسناد ، مختصرًا ، رواه أبو داود الطيالسي في مسنده : 566 ، بلفظ : "أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة ، فصلى سبعة عشر شهرًا نحو بيت المقدس ، ثم نزلت عليه هذه الآية : "قد نرى تقلب وجهك في السماء" ، إلى آخر الآية قال ، فوجهه الله إلى الكعبة" .وهو جزء من حديث طويل ، رواه أبو داود السجستاني في سننه : 507 ، بإسنادين : عن محمد بن المثنى -شيخ الطبري هنا- عن أبي داود ، وهو الطيالسي - ثم رواه عن نصر بن المهاجر ، عن يزيد بن هارون ، كلاهما عن المسعودي . ولكن بين أبو داود أن رواية محمد بن المثنى مختصرة ، كالرواية التي في مسند الطيالسي ، ولكن ذكر أن صلاتهم نحو بيت المقدس كانت"ثلاثة عشر شهرًا" ، كرواية الطبري هنا عن ابن المثنى . وأنا أرجح أن تكون رواية ابن المثنى عن الطيالسي . أرجح من الرواية التي في مسند الطيالسي ، إذ أنه ليس من جمعه ، بل هو من جمع أحد الرواة عنه .ثم إن حديث معاذ -بطوله- رواه أحمد في المسند 5 : 246-247 ، عن أبي النضر هاشم بن القاسم ، عن يزيد بن هارون - كلاهما عن المسعودي ، بهذا الإسناد . ولكن فيه"سبعة عشر شهرًا" ، كرواية مسند الطيالسي .وقد أشار الحافظ في الفتح 1 : 89-90 إلى كثير من الروايات في ذلك ، وحاول الجمع بينهما أو الترجيح . وعندي أن مثل هذا لا يستطاع ضبطه إلا أن يكتبوه في حينه ، أو تتجه همّتهم إلى العناية بحفظه .وقال الحافظ ابن كثير 1 : 345-346 : "والمقصود أن التوجه إلى بيت المقدس ، بعد مقدمه صلى الله عليه وسلم المدينة . واستمر الأمر على ذلك بضعة عشر شهرًا ، وكان يكثر الدعاء والابتهال أن يوجه إلى الكعبة . التي هي قبلة إبراهيم عليه السلام . فأجيب إلى ذلك ، وأمر بالتوجه إلى البيت العتيق" . وانظر أيضًا تاريخ ابن كثير 3 : 252-254 .(16) الأثر : 2160- مضى برقم : 1833 ويأتي برقم : 2236 ، والزيادة بين القوسين من الموضعين .(17) الأثر : 2162- هو بعض الأثر السالف رقم : 2149 .(18) يعني الأثر رقم : 2160 .(19) انظر تفسير"المشرق والمغرب" فيما سلف 2 : 526-530 .(20) انظر تفسير"هدى" فيما سلف1 : 166- 169 ، وفي فهرس اللغة في الجزء الأول والثاني .(21) انظر تفسير"الصراط المستقيم" فيما سلف 1 : 170-177 .
﴿ سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ﴾