قال الشيخ لموسى: إني أريد أن أزوِّجك إحدى ابنتيَّ هاتين، على أن تكون أجيرًا لي في رعي ماشيتي ثماني سنين مقابل ذلك، فإن أكملت عشر سنين فإحسان من عندك، وما أريد أن أشق عليك بجعلها عشرا، ستجدني إن شاء الله من الصالحين في حسن الصحبة والوفاء بما قلتُ.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«قال إني أريد أن أُنكحك إحدى ابنتيَّ هاتين» وهي الكبرى أو الصغرى «على أن تأجرني» تكون أجيراً لي في رعي غنمي «ثماني حجج» أي سنين «فإن أتممت عشراً» أي رعي عشر سنين «فمن عندك» التمام «وما أريد أن أشق عليك» باشتراط العشر «ستجدني إن شاء الله» للتبرك «من الصالحين» الوافين بالعهد.
﴿ تفسير السعدي ﴾
قَالَ صاحب مدين لموسى إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي أي تصير أجيرا عندي ثَمَانِيَ حِجَجٍ أي: ثماني سنين. فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ تبرع منك، لا شيء واجب عليك. وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ فأحتم عشر السنين، أو ما أريد أن أستأجرك لأكلفك أعمالا شاقة، وإنما استأجرك لعمل سهل يسير لا مشقة فيه سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ فرغبه في سهولة العمل، وفي حسن المعاملة، وهذا يدل على أن الرجل الصالح، ينبغي له أن يحسن خلقه مهما أمكنه، وأن الذي يطلب منه، أبلغ من غيره.
﴿ تفسير البغوي ﴾
( قال ) شعيب عند ذلك : ( إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين ) واسمها " صفورة " و " ليا " في قول شعيب الجبائي ، وقال ابن إسحاق : " صفورة " و " شرقا " وقال غيرهما : الكبرى " صفراء " والصغرى " صفيراء " . وقيل زوجه الكبرى . وذهب أكثرهم إلى أنه زوجه الصغرى منهما واسمها " صفورة " ، وهي التي ذهبت لطلب موسى ، ( على أن تأجرني ثماني حجج ) يعني : أن تكون أجيرا لي ثمان سنين ، قال الفراء : يعني : تجعل ثوابي من تزويجها أن ترعى غنمي ثماني حجج ، تقول العرب : آجرك الله بأجرك أي : أثابك ، والحجج : السنون ، واحدتها حجة ، ( فإن أتممت عشرا فمن عندك ) أي : إن أتممت عشر سنين فذلك تفضل منك وتبرع ، ليس بواجب عليك ، ( وما أريد أن أشق عليك ) أي : ألزمك تمام العشر إلا أن تتبرع ( ستجدني إن شاء الله من الصالحين ) قال عمر : يعني : في حسن الصحبة والوفاء بما قلت .
﴿ تفسير الوسيط ﴾
واستجاب الشيخ الكبير لما اقترحته عليه ابنته، وكأنه أحس بصدق عاطفتها، وطهارة مقصدها وسلامة فطرتها، فوجه كلامه إلى موسى قائلا: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ.أى: قال الشيخ الكبير لموسى مستجيبا لاقتراح ابنته: يا موسى إنى أريد أن أزوجك إحدى ابنتي هاتين.ولعله أراد بإحداهما، تلك التي قالت له: يا أبت استأجره، لشعوره- وهو الشيخ الكبير، والأب العطوف، الحريص على راحة ابنته- بأن هناك عاطفة شريفة تمت بين قلب ابنته، وبين هذا الرجل القوى الأمين، وهو موسى- عليه السلام-.وفي هذه الآيات ما فيها من الإشارة إلى رغبة المرأة الصالحة، في الرجل الصالح، وإلى أنه من شأن الآباء العقلاء أن يعملوا على تحقيق هذه الرغبة.قال الشوكانى: في هذه الآية مشروعية عرض ولى المرأة لها على الرجل، وهذه سنة ثابتة في الإسلام، كما ثبت من عرض عمر لابنته حفصة على أبى بكر وعثمان، وغير ذلك مما وقع في أيام الصحابة أيام النبوة، وكذلك ما وقع من عرض المرأة لنفسها على رسول الله صلّى الله عليه وسلم .وقوله- سبحانه-: عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ بيان لما اشترطه الشيخ الكبير على موسى- عليه السلام-.أى قال له بصيغة التأكيد: إنى أريد أن أزوجك إحدى ابنتي هاتين، بشرط أن تعمل أجيرا عندي لرعى غنمي ثَمانِيَ حِجَجٍ أى: ثماني سنين.قال الجمل: وقوله: عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي في محل نصب على الحال، إما من الفاعل أو من المفعول.أى: مشروطا على أو عليك ذلك.. وتَأْجُرَنِي مفعوله الثاني محذوف أى: تأجرنى نفسك وثَمانِيَ حِجَجٍ ظرف له.. .وقوله: فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ أى: فإن أتممت عشر سنين كأجير عندي لرعاية غنمي، أى: فهذا الإتمام من عندك على سبيل التفضل والتكرم فإنى لا أشترط عليك سوى ثماني حجج.وقوله وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ بيان لحسن العرض الذي عرضه الشيخ على موسى.أى: وما أريد أن أشق عليك أو أتعبك في أمر من الأمور خلال استئجارى لك، بل ستجدني- إن شاء الله- تعالى- من الصالحين، في حسن المعاملة، وفي لين الجانب، وفي الوفاء بالعهد.وقال: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ.. للدلالة على أنه من المؤمنين. الذين يفوضون أمورهم إلى الله- تعالى- ويرجون توفيقه ومعونته على الخير.
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
قال : ( إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين ) أي : طلب إليه هذا الرجل الشيخ الكبير أن يرعى عنه ويزوجه إحدى ابنتيه هاتين .قال شعيب الجبائي : وهما صفورا ، وليا .وقال محمد بن إسحاق : صفورا وشرقا ، ويقال : ليا . وقد استدل أصحاب أبي حنيفة [ رحمه الله تعالى ] بهذه الآية على صحة البيع فيما إذا قال : " بعتك أحد هذين العبدين بمائة . فقال : اشتريت " أنه يصح ، والله أعلم .وقوله : ( على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك ) أي : على أن ترعى علي ثماني سنين ، فإن تبرعت بزيادة سنتين فهو إليك ، وإلا ففي ثمان كفاية ، ( وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين ) أي : لا أشاقك ، ولا أؤاذيك ، ولا أماريك .وقد استدلوا بهذه الآية الكريمة لمذهب الأوزاعي ، فيما إذا قال : " بعتك هذا بعشرة نقدا ، أو بعشرين نسيئة " أنه يصح ، ويختار المشتري بأيهما أخذه صح . وحمل الحديث المروي في سنن أبي داود : " من باع بيعتين في بيعة ، فله أوكسهما أو الربا " على هذا المذهب . وفي الاستدلال بهذه الآية وهذا الحديث على هذا المذهب نظر ، ليس هذا موضع بسطه لطوله . والله أعلم .ثم قد استدل أصحاب الإمام أحمد ومن تبعهم ، في صحة استئجار الأجير بالطعمة والكسوة بهذه الآية ، واستأنسوا في ذلك بما رواه أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة في كتابه السنن ، حيث قال : " باب استئجار الأجير على طعام بطنه " : حدثنا محمد بن المصفى الحمصي ، حدثنا بقية بن الوليد ، عن مسلمة بن علي ، عن سعيد بن أبي أيوب ، عن الحارث بن يزيد ، عن علي بن رباح قال : سمعت عتبة بن الندر يقول : كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأ ( طسم ) ، حتى إذا بلغ قصة موسى قال : " إن موسى أجر نفسه ثماني سنين أو : عشر سنين على عفة فرجه وطعام بطنه .وهذا الحديث من هذا الوجه ضعيف ، لأن مسلمة بن علي وهو الخشني الدمشقي البلاطي ضعيف الرواية عند الأئمة ، ولكن قد روي من وجه آخر ، وفيه نظر أيضا .وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا صفوان ، حدثنا الوليد ، حدثنا عبد الله بن لهيعة ، عن الحارث بن يزيد الحضرمي ، عن علي بن رباح اللخمي قال : سمعت عتبة بن الندر السلمي - صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن موسى آجر نفسه بعفة فرجه ، وطعمة بطنه " .
﴿ تفسير القرطبي ﴾
قال إني أريد أن أنكحك الآية . فيه عرض الولي بنته على الرجل ; وهذه سنة قائمة ; عرض صالح مدين ابنته على صالح بني إسرائيل ، وعرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على أبي بكر وعثمان ، وعرضت الموهوبة نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم ; فمن الحسن عرض الرجل وليته ، والمرأة نفسها على الرجل الصالح ، اقتداء بالسلف الصالح . قال ابن عمر : لما تأيمت حفصة قال عمر لعثمان : إن شئت أنكحك حفصة بنت عمر ; الحديث انفرد بإخراجه البخاري .وفي هذه الآية دليل على أن النكاح إلى الولي لا حظ للمرأة فيه ، لأن صالح مدين تولاه ، وبه قال فقهاء الأمصار ، وخالف في ذلك أبو حنيفة وقد مضى .الثامنة : هذه الآية تدل على أن للأب أن يزوج ابنته البكر البالغ من غير استئمار ، وبه قال مالك واحتج بهذه الآية ، وهو ظاهر قوي في الباب ، واحتجاجه بها يدل على أنه كان يعول على الإسرائيليات ; كما تقدم . وبقول مالك في هذه المسألة قال الشافعي وكثير من العلماء ، وقال أبو حنيفة : إذا بلغت الصغيرة فلا يزوجها أحد إلا برضاها ; لأنها بلغت حد التكليف ، فأما إذا كانت صغيرة فإنه يزوجها بغير رضاها ; لأنه لا إذن لها ولا رضا بغير خلاف .استدل أصحاب الشافعي بقوله : إني أريد أن أنكحك على أن النكاح موقوف على لفظ التزويج والإنكاح . وبه قال ربيعة وأبو ثور وأبو عبيد وداود ومالك على اختلاف عنه . وقال علماؤنا في المشهور : ينعقد النكاح بكل لفظ ، وقال أبو حنيفة : ينعقد بكل لفظ يقتضي التمليك على التأبيد ; أما الشافعية فلا حجة لهم في الآية لأنه شرع من قبلنا وهم لا يرونه حجة في شيء في المشهور عندهم . وأما أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي فقالوا : ينعقد النكاح بلفظ الهبة وغيره إذا كان قد أشهد عليه ; لأن الطلاق يقع بالصريح والكناية ، قالوا : فكذلك النكاح . قالوا : والذي خص به النبي صلى الله عليه وسلم تعري البضع من العوض لا النكاح بلفظ الهبة ، وتابعهم ابن القاسم فقال : إن وهب ابنته وهو يريد إنكاحها فلا أحفظ عن مالك فيه شيئا ، وهو عندي جائز كالبيع . قال أبو عمر : الصحيح أنه لا ينعقد نكاح بلفظ الهبة ، كما لا ينعقد بلفظ النكاح هبة شيء من الأموال . وأيضا فإن النكاح مفتقر إلى التصريح لتقع الشهادة عليه ، وهو ضد الطلاق ، فكيف يقاس عليه ، وقد أجمعوا أن النكاح لا ينعقد بقول : أبحت لك وأحللت لك . فكذلك الهبة وقال صلى الله عليه وسلم : استحللتم فروجهن بكلمة الله يعني القرآن ، وليس في القرآن عقد النكاح بلفظ الهبة ، وإنما فيه التزويج والنكاح ، وفي إجازة النكاح بلفظ الهبة إبطال بعض خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم .قوله تعالى : إحدى ابنتي هاتين يدل على أنه عرض لا عقد ، لأنه لو كان عقدا لعين المعقود عليها له ; لأن العلماء إن كانوا قد اختلفوا في جواز البيع إذا قال : بعتك أحد عبدي هذين بثمن كذا ; فإنهم اتفقوا على أن ذلك لا يجوز في النكاح ; لأنه خيار وشيء من الخيار لا يلصق بالنكاح .قال مكي : في هذه الآية خصائص في النكاح ، منها أنه لم يعين الزوجة ولا حد أول الأمد ، وجعل المهر إجارة ، ودخل ولم ينقد شيئا .قلت : فهذه أربع مسائل تضمنتها المسألة الحادية عشرة : الأولى من الأربع مسائل : التعيين ، قال علماؤنا : أما التعيين فيشبه أنه كان في ثاني حال المراوضة ، وإنما عرض الأمر مجملا ، وعين بعد ذلك وقد قيل : إنه زوجه صفوريا وهي الصغرى ، يروى عن أبي ذر قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن سئلت : أي الأجلين قضى موسى فقل : خيرهما وأوفاهما وإن سئلت : أي المرأتين تزوج ؟ فقل : الصغرى وهي التي جاءت خلفه وهي التي قالت : يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين . قيل : إن الحكمة في تزويجه الصغرى منه قبل الكبرى وإن كانت الكبرى أحوج إلى الرجال أنه توقع أن يميل إليها ; لأنه رآها في رسالته ، وماشاها في إقباله إلى أبيها معها ، فلو عرض عليه الكبرى ربما أظهر له الاختيار وهو يضمر غيره . وقيل غير هذا ; والله أعلم . وفي بعض الأخبار أنه تزوج بالكبرى ; حكاه القشيري .وأما ذكر أول المدة فليس في الآية ما يقتضي إسقاطه بل هو مسكوت عنه ; فإما رسماه ، وإلا فهو من أول وقت العقد .وأما النكاح بالإجارة فظاهر من الآية ، وهو أمر قد قرره شرعنا ، وجرى في حديث الذي لم يكن عنده إلا شيء من القرآن ; رواه الأئمة ; وفي بعض طرقه : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تحفظ من القرآن فقال : سورة البقرة والتي تليها . قال : فعلمها عشرين آية وهي امرأتك واختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال : فكرهه مالك ، ومنعه ابن القاسم ، وأجازه ابن حبيب ; وهو قول الشافعي وأصحابه ; قالوا : يجوز أن تكون منفعة الحر صداقا كالخياطة والبناء وتعليم القرآن وقال أبو حنيفة : لا يصح ، وجوز أن يتزوجها بأن يخدمها عبده سنة ، أو يسكنها داره سنة ; لأن العبد والدار مال ، وليس خدمتها بنفسه مالا . وقال أبو الحسن الكرخي : إن عقد النكاح بلفظ الإجارة جائز ; لقوله تعالى : فآتوهن أجورهن . وقال أبو بكر الرازي : لا يصح لأن الإجارة عقد مؤقت ، وعقد النكاح مؤبد ، فهما متنافيان . وقال ابن القاسم : ينفسخ قبل البناء ويثبت بعده . وقال أصبغ : إن نقد معه شيئا ففيه اختلاف ، وإن لم ينقد فهو أشد ، فإن ترك مضى على كل حال ، بدليل قصة شعيب ; قاله مالك وابن المواز وأشهب وعول على هذه الآية جماعة من المتأخرين والمتقدمين في هذه النازلة ; قال ابن خويز منداد تضمنت هذه الآية النكاح على الإجارة والعقد صحيح ، ويكره أن تجعل الإجارة مهرا ، وينبغي أن يكون المهر مالا كما قال عز وجل : أن تبتغوا بأموالكم محصنين هذا قول أصحابنا جميعا .وأما قوله : ودخل ولم ينقد . فقد اختلف الناس في هذا ; هل دخل حين عقد أم حين سافر ، فإن كان حين عقد فماذا نقد ؟ وقد منع علماؤنا من الدخول حتى ينقد ولو ربع دينار ; قاله ابن القاسم فإن دخل قبل أن ينقد مضى ، لأن المتأخرين من أصحابنا قالوا : تعجيل الصداق أو شيء منه مستحب ، على أنه إن كان الصداق رعية الغنم فقد نقد الشروع في الخدمة ; وإن كان دخل حين سافر فطول الانتظار في النكاح جائز إن كان مدى العمر بغير شرط ، وأما إن كان بشرط فلا يجوز إلا أن يكون الغرض صحيحا مثل التأهب للبناء أو انتظار صلاحية الزوجة للدخول إن كانت صغيرة ; نص عليه علماؤنا .في هذه الآية اجتماع إجارة ونكاح ، وقد اختلف علماؤنا في ذلك على ثلاثة أقوال : الأول : قال في ثمانية أبي زيد : يكره ابتداء ، فإن وقع مضى . الثاني : قال مالك وابن القاسم في المشهور : لا يجوز ويفسخ قبل الدخول وبعده ; لاختلاف مقاصدهما كسائر العقود المتباينة . الثالث : أجازه أشهب وأصبغ قال ابن العربي : وهذا هو الصحيح وعليه تدل الآية ; وقد قال مالك النكاح أشبه شيء بالبيوع ، فأي فرق بين إجارة وبيع أو بين بيع ونكاح .فرع : وإن أصدقها تعليم شعر مباح صح ; قال المزني : وذلك مثل قول الشاعر :يقول العبد فائدتي ومالي وتقوى الله أفضل ما استفاداوإن أصدقها تعليم شعر فيه هجو أو فحش كان كما لو أصدقها خمرا أو خنزيرا .قوله تعالى : على أن تأجرني ثماني حجج جرى ذكر الخدمة مطلقا وقال مالك : إنه جائز ويحمل على العرف ، فلا يحتاج في التسمية إلى الخدمة وهو ظاهر قصة موسى ، فإنه ذكر إجارة مطلقة وقال أبو حنيفة والشافعي : لا يجوز حتى يسمى لأنه مجهول وقد ترجم البخاري : ( باب من استأجر أجيرا فبين له الأجل ولم يبين له العمل ) لقوله تعالى : على أن تأجرني ثماني حجج . قال المهلب : ليس كما ترجم ; لأن العمل عندهم كان معلوما من سقي وحرث ورعي وما شاكل أعمال البادية في مهنة أهلها ، فهذا متعارف وإن لم يبين له أشخاص الأعمال ولا مقاديرها ; مثل أن يقول له : إنك تحرث كذا من السنة ، وترعى كذا من السنة ، فهذا إنما هو على المعهود من خدمة البادية ، وإنما الذي لا يجوز عند الجميع أن تكون المدة مجهولة ، والعمل مجهولا غير معهود ، لا يجوز حتى يعلم . قال ابن العربي : وقد ذكر أهل التفسير أنه عين له رعية الغنم ، ولم يرو من طريق صحيحة ، ولكن قالوا : إن صالح مدين لم يكن له عمل إلا رعية الغنم ، فكان ما علم من حاله قائما مقام التعيين للخدمة فيه .أجمع العلماء على أنه جائز أن يستأجر الراعي شهورا معلومة ، بأجرة معلومة ، لرعاية غنم معدودة ; فإن كانت معدودة معينة ، ففيها تفصيل لعلمائنا ; قال ابن القاسم : لا يجوز حتى يشترط الخلف إن ماتت ، وهي رواية ضعيفة جدا ; وقد استأجر صالح مدين موسى على غنمه ، وقد رآها ولم يشترط خلفا ; وإن كانت مطلقة غير مسماة ولا معينة جازت عند علمائنا . وقال أبو حنيفة والشافعي : لا تجوز لجهالتها ; وعول علماؤنا على العرف حسبما ذكرناه آنفا ; وأنه يعطى بقدر ما تحتمل قوته وزاد بعض علمائنا أنه لا يجوز حتى يعلم المستأجر قدر قوته ، وهو صحيح فإن صالح مدين علم قدر قوة موسى برفع الحجر .قال مالك : وليس على الراعي ضمان وهو مصدق فيما هلك أو سرق ، لأنه أمين كالوكيل وقد ترجم البخاري : ( باب إذا أبصر الراعي أو الوكيل شاة تموت أو شيئا يفسد فأصلح ما يخاف الفساد ) وساق حديث كعب بن مالك عن أبيه أنه كانت لهم غنم ترعى بسلع ، فأبصرت جارية لنا بشاة من غنمنا موتا فكسرت حجرا فذبحتها به ، فقال لهم : لا تأكلوا حتى أسأل النبي - أو أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من يسأله - وأنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم - أو أرسل إليه - فأمره بأكلها ; قال عبد الله : فيعجبني أنها أمة وأنها ذبحت قال المهلب : فيه من الفقه تصديق الراعي والوكيل فيما ائتمنا عليه حتى يظهر عليهما دليل الخيانة والكذب ; وهذا قول مالك وجماعة وقال ابن القاسم : إذا خاف الموت على شاة فذبحها لم يضمن ويصدق إذا جاء بها مذبوحة . وقال غيره : يضمن حتى يبين ما قال .واختلف ابن القاسم وأشهب إذا أنزى الراعي على إناث الماشية بغير إذن أربابها فهلكت ; فقال ابن القاسم : لا ضمان عليه ; لأن الإنزاء من إصلاح المال ونمائه وقال أشهب : عليه الضمان ; وقول ابن القاسم أشبه بدليل حديث كعب ، وأنه لا ضمان عليه فيما تلف عليه باجتهاده ، إن كان من أهل الصلاح ، وممن يعلم إشفاقه على المال ; وأما إن كان من أهل الفسوق والفساد وأراد صاحب المال أن يضمنه فعل ; لأنه لا يصدق أنه رأى بالشاة موتا لما عرف من فسقه .لم ينقل ما كانت أجرة موسى عليه السلام ; ولكن روى يحيى بن سلام أن صالح مدين جعل لموسى كل سخلة توضع خلاف لون أمها ، فأوحى الله إلى موسى أن ألق عصاك بينهن يلدن خلاف شبههن كلهن وقال غير يحيى : بل جعل له كل بلقاء تولد له ، فولدن له كلهن بلقا . وذكر القشيري أن شعيبا لما استأجر موسى قال له : ادخل بيت كذا وخذ عصا من العصي التي في البيت ، فأخرج موسى عصا ، وكان أخرجها آدم من الجنة ، وتوارثها الأنبياء حتى صارت إلى شعيب ، فأمره شعيب أن يلقيها في البيت ويأخذ عصا أخرى ، فدخل وأخرج تلك العصا ; وكذلك سبع مرات كل ذلك لا تقع بيده غير تلك ، فعلم شعيب أن له شأنا ; فلما أصبح قال له : سق الأغنام إلى مفرق الطريق ، فخذ عن يمينك وليس بها عشب كثير ، ولا تأخذ عن يسارك فإن بها عشبا كثيرا وتنينا كبيرا لا يقبل المواشي ، فساق المواشي إلى مفرق الطريق ، فأخذت نحو اليسار ولم يقدر على ضبطها ، فنام موسى وخرج التنين ، فقامت العصا وصارت شعبتاها حديدا وحاربت التنين حتى قتلته ، وعادت إلى موسى عليه السلام ، فلما انتبه موسى رأى العصا مخضوبة بالدم ، والتنين مقتولا ; فعاد إلى شعيب عشاء ، وكان شعيب ضريرا فمس الأغنام ، فإذا أثر الخصب باد عليها ، فسأله عن القصة فأخبره بها ، ففرح شعيب وقال : كل ما تلد هذه المواشي هذه السنة قالب لون - أي ذات لونين - فهو لك ; فجاءت جميع السخال تلك السنة ذات لونين ، فعلم شعيب أن لموسى عند الله مكانة . وروى عيينة بن حصن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أجر موسى نفسه بشبع بطنه وعفة فرجه فقال له شعيب لك منها - يعني من نتاج غنمه - ما جاءت به قالب لون ليس فيها عزوز ولا فشوش ولا كموش ولا ضبوب ولا ثعول قال الهروي : العزوز البكيئة ; مأخوذ من العزاز وهي الأرض الصلبة ، وقد تعززت الشاة . والفشوش التي ينفش لبنها من غير حلب وذلك لسعة الإحليل ، ومثله الفتوح والثرور ، ومن أمثالهم : لأفشنك فش الوطب . أي لأخرجن غضبك وكبرك من رأسك . ويقال : فش السقاء : إذا أخرج منه الريح . ومنه الحديث : إن الشيطان يفش بين إليتي أحدكم حتى يخيل إليه أنه أحدث أي ينفخ نفخا ضعيفا . والكموش : الصغيرة الضرع ، وهي الكميشة أيضا ; سميت بذلك لانكماش ضرعها وهو تقلصه ; ومنه يقال : رجل كميش الإزار . والكشود مثل الكموش . والضبوب الضيقة ثقب الإحليل ، والضب : الحلب بشدة العصر . والثعول الشاة التي لها زيادة حلمة وهي الثعل والثعل زيادة السن ، وتلك الزيادة هي الراءول ورجل أثعل ، والثعل ضيق مخرج اللبن . قال الهروي : وتفسير قالب لون في الحديث أنها جاءت على غير ألوان أمهاتها .الإجارة بالعوض المجهول لا تجوز ; فإن ولادة الغنم غير معلومة ، وإن من البلاد الخصبة ما يعلم ولاد الغنم فيها قطعا وعدتها وسلامة سخالها كديار مصر وغيرها ، بيد أن ذلك لا يجوز في شرعنا ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغرر ، ونهى عن المضامين والملاقيح .والمضامين في بطون الإناث ، والملاقيح ما في أصلاب الفحول وعلى خلاف ذلك قال الشاعر :ملقوحة في بطن ناب حاملوقد مضى في سورة ( الحجر ) بيانه على أن راشد بن معمر أجاز الإجارة على الغنم بالثلث والربع . وقال ابن سيرين وعطاء : ينسج الثوب بنصيب منه ; وبه قال أحمد .الكفاءة في النكاح معتبرة ; واختلف العلماء هل في الدين والمال والحسب ، أو في بعض ذلك ، والصحيح جواز نكاح الموالي للعربيات والقرشيات ; لقوله تعالى : إن أكرمكم عند الله أتقاكم وقد جاء موسى إلى صالح مدين غريبا طريدا خائفا وحيدا جائعا عريانا ، فأنكحه ابنته لما تحقق من دينه ورأى من حاله ، وأعرض عما سوى ذلك وقد تقدمت هذه المسألة مستوعبة والحمد لله .قال بعضهم : هذا الذي جرى من شعيب لم يكن ذكرا لصداق المرأة ، وإنما كان اشتراطا لنفسه على ما يفعله الأعراب ; فإنها تشترط صداق بناتها ، وتقول لي كذا في خاصة نفسي ، وتترك المهر مفوضا ; ونكاح التفويض جائز . قال ابن العربي : هذا الذي تفعله الأعراب هو حلوان وزيادة على المهر ، وهو حرام لا يليق بالأنبياء ; فأما إذا اشترط الولي شيئا لنفسه ، فقد اختلف العلماء فيما يخرجه الزوج من يده ولا يدخل في يد المرأة على قولين : أحدهما : أنه جائز . والآخر : لا يجوز . والذي يصح عندي التقسيم ; فإن المرأة لا تخلو أن تكون بكرا أو ثيبا ; فإن كانت ثيبا جاز ; لأن نكاحها بيدها ، وإنما يكون للولي مباشرة العقد ، ولا يمتنع أخذ العوض عليه كما يأخذه الوكيل على عقد البيع ، وإن كانت بكرا كان العقد بيده ، وكأنه عوض في النكاح لغير الزوج وذلك باطل ; فإن وقع فسخ قبل البناء ، وثبت بعده على مشهور الرواية . والحمد لله .لما ذكر الشرط وأعقبه بالطوع في العشر خرج كل واحد منهما على حكمه ، ولم يلحق الآخر بالأول ، ولا اشترك الفرض والطوع ; ولذلك يكتب في العقود الشروط المتفق عليها ، ثم يقال وتطوع بكذا ، فيجري الشرط على سبيله ، والطوع على حكمه ، وانفصل الواجب من التطوع وقيل : ولفظ شعيب حسن في لفظ العقود في النكاح : أنكحه إياها أولى من : أنكحها إياه على ما يأتي بيانه في ( الأحزاب ) وجعل شعيب الثمانية الأعوام شرطا ، ووكل العاشرة إلى المروءة .
﴿ تفسير الطبري ﴾
القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)يقول تعالى ذكره: (قَالَ) أبو المرأتين اللتين سقى لهما موسى لموسى: ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ) يعني بقوله: ( عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ): على أن تثيبني من تزويجها رعي ماشيتي ثماني حِجَج, من قول الناس: آجرك الله فهو يَأْجُرُك, بمعنى: أثابك الله; والعرب تقول: أَجَرْت الأجير آجره, بمعنى: أعطيته ذلك, كما يقال: أخذته فأنا آخذه. وحكى بعض أهل العربية من أهل البصرة أن لغة العرب: أَجَرْت غلامي فهو مأجور, وآجرته فهو مُؤْجَر, يريد: أفعلته.قال: وقال بعضهم: آجره فهو مؤاجر, أراد فاعلته; وكأن أباها عندي جعل صداق ابنته التي زوجها موسى رعي موسى عليه ماشيته ثمانيَ حِجَج, والحجَج: السنون.وقوله: ( فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ ) يقول: فإن أتممت الثماني الحجج عشرا التي شرطتها عليك بإنكاحي إياك إحدى ابنتي, فجعلتها عشر حجج, فإحسان من عندك, وليس مما اشترطته عليك بسبب تزويجك ابنتي ( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ) باشتراط الثماني الحِجَج عَشْرا عليك ( سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) في الوفاء بما قلت لك.كما حدثنا ابن حميد, قال: ثنا سلمة, عن ابن إسحاق: ( سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) أي في حُسن الصحبة والوفاء بما قلت.
﴿ قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين ﴾