هؤلاء الذين تقدَّمَتْ صفتُهم يُؤتَوْن ثواب عملهم مرتين: على الإيمان بكتابهم، وعلى إيمانهم بالقرآن بما صبروا، ومن أوصافهم أنهم يدفعون السيئة بالحسنة، ومما رزقناهم ينفقون في سبيل الخير والبر. وإذا سمع هؤلاء القوم الباطل من القول لم يُصْغوا إليه، وقالوا: لنا أعمالنا لا نحيد عنها، ولكم أعمالكم ووزرها عليكم، فنحن لا نشغل أنفسنا بالرد عليكم، ولا تسمعون منَّا إلا الخير، ولا نخاطبهم بمقتضى جهلكم؛ لأننا لا نريد طريق الجاهلين ولا نحبها. وهذا من خير ما يقوله الدعاة إلى الله.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«وإذا سمعوا اللغو» الشتم والأذى من الكفار «أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم» سلام متاركة أي سلمتم منا من الشتم وغيره «لا نبتغي الجاهلين» لا نصحبهم.
﴿ تفسير السعدي ﴾
وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ من جاهل خاطبهم به، قَالُوا مقالة عباد الرحمن أولي الألباب: لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ أي: كُلٌّ سَيُجازَى بعمله الذي عمله وحده، ليس عليه من وزر غيره شيء. ولزم من ذلك، أنهم يتبرءون مما عليه الجاهلون، من اللغو والباطل، والكلام الذي لا فائدة فيه. سَلَامٌ عَلَيْكُمْ أي لا تسمعون منا إلا الخير، ولا نخاطبكم بمقتضى جهلكم، فإنكم وإن رضيتم لأنفسكم هذا المرتع اللئيم، فإننا ننزه أنفسنا عنه، ونصونها عن الخوض فيه، لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ من كل وجه.
﴿ تفسير البغوي ﴾
( وإذا سمعوا اللغو ) القبيح من القول ، ( أعرضوا عنه ) وذلك أن المشركين كانوا يسبون مؤمني أهل الكتاب ويقولون : تبا لكم تركتم دينكم ، فيعرضون عنهم ولا يردون عليهم ، ( وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم ) لنا ديننا ولكم دينكم ، ( سلام عليكم ) ليس المراد منه سلام التحية ، ولكنه سلام المتاركة ، معناه : سلمتم منا لا نعارضكم بالشتم والقبيح من القول ، ( لا نبتغي الجاهلين ) أي : دين الجاهلين ، يعني : لا نحب دينكم الذي أنتم عليه . وقيل : لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه ، وهذا قبل أن يؤمر المسلمون بالقتال .
﴿ تفسير الوسيط ﴾
وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ أى: وإذا سمعوا الكلام الساقط الذي لا خير فيه.انصرفوا عنه تكرما وتنزها.وَقالُوا لمن تطاول عليهم وآذاهم، لنا أعمالنا، التي سيحاسبنا الله- تعالى- عليها وَلَكُمْ- أيضا- أعمالكم، التي سيحاسبكم الله- تعالى- عليها.سَلامٌ عَلَيْكُمْ أى: سلام متاركة منا عليكم، وإعراض عن سفاهتكم، فليس المراد بالسلام هنا: سلام التحية، وإنما المقصود به سلام المتاركة والإعراض.لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ أى: إن ديننا ينهانا عن طلب صحبة الجاهلين، وعن المجادلة معهم.قال ابن كثير ما ملخصه: لما انتهى وقد أهل الكتاب من لقائه مع النبي صلّى الله عليه وسلم، وآمنوا به، وقاموا عنه، اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش، فقالوا لهم: خيبكم الله من ركب، بعثكم من وراءكم من أهل دينكم، ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تكد تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم، وصدقتموه فيما قال، ما نعلم وفدا أحمق منكم.. فقالوا لهم: سلام عليكم، لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه، «1» .ثم بين- سبحانه- بعد ذلك أن الهداية منه وحده، ورد على أقوال المشركين، وبين سنة من سننه في خلقه، كما بين أن ما عنده- سبحانه- أفضل وأبقى، من شهوات الدنيا وزينتها، فقال- تعالى-:
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
وقوله : ( وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه ) أي : لا يخالطون أهله ولا يعاشرونهم ، بل كما قال تعالى : ( وإذا مروا باللغو مروا كراما ) [ الفرقان : 72 ] .( وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ) أي : إذا سفه عليهم سفيه ، وكلمهم بما لا يليق بهم الجواب عنه ، أعرضوا عنه ولم يقابلوه بمثله من الكلام القبيح ، ولا يصدر عنهم إلا كلام طيب . ولهذا قال عنهم : إنهم قالوا : ( لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ) أي : لا نريد طريق الجاهلين ولا نحبها .قال محمد بن إسحاق في السيرة : ثم قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة عشرون رجلا أو قريب من ذلك ، من النصارى ، حين بلغهم خبره من الحبشة . فوجدوه في المسجد ، فجلسوا إليه وكلموه وساءلوه - ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة - فلما فرغوا من مساءلة رسول الله عما أرادوا ، دعاهم إلى الله وتلا عليهم القرآن ، فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع ، ثم استجابوا لله وآمنوا به وصدقوه ، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره . فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش ، فقالوا لهم : خيبكم الله من ركب . بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل ، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فيما قال ; ما نعلم ركبا أحمق منكم . أو كما قالوا لهم . فقالوا [ لهم ] سلام عليكم ، لا نجاهلكم ، لنا ما نحن عليه ، ولكم ما أنتم عليه ، لم نأل أنفسنا خيرا .قال : ويقال : إن النفر النصارى من أهل نجران ، فالله أعلم أي ذلك كان .قال : ويقال - والله أعلم - إن فيهم نزلت هذه الآيات : ( الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ) إلى قوله : ( لا نبتغي الجاهلين ) .قال : وقد سألت الزهري عن هذه الآيات فيمن أنزلن ، قال : ما زلت أسمع من علمائنا أنهن أنزلن في النجاشي وأصحابه ، رضي الله عنهم ، والآيات التي في سورة المائدة : ( ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا ) إلى قوله : ( فاكتبنا مع الشاهدين ) [ المائدة : 82 ، 83 ]
﴿ تفسير القرطبي ﴾
ثم مدحهم أيضا على إعراضهم عن اللغو ; كما قال تعالى : وإذا مروا باللغو مروا كراما أي إذا سمعوا ما قال لهم المشركون من الأذى والشتم أعرضوا عنه ; أي لم يشتغلوا به وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم أي متاركة ; مثل قوله : وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما أي لنا ديننا ولكم دينكم ( سلام عليكم ) أي أمنا لكم منا فإنا لا نحاربكم ، ولا نسابكم ، وليس من التحية في شيء . قال الزجاج : وهذا قبل الأمر بالقتال . لا نبتغي الجاهلين أي لا نطلبهم للجدال والمراجعة والمشاتمة .
﴿ تفسير الطبري ﴾
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)يقول تعالى ذكره: وإذا سمع هؤلاء القوم الذين آتيناهم الكتاب اللغو, وهو الباطل من القول.كما حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قَتادة ( وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ) لا يجارون أهل الجهل والباطل في باطلهم, أتاهم من أمر الله ما وقذهم عن ذلك.وقال آخرون: عُنِي باللغو في هذا الموضع: ما كان أهل الكتاب ألحقوه في كتاب الله مما ليس هو منه.* ذكر من قال ذلك:حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا ) ... إلى آخر الآية, قال: هذه لأهل الكتاب, إذا سمعوا اللغو الذي كتب القوم بأيديهم مع كتاب الله, وقالوا: هو من عند الله, إذا سمعه الذين أسلموا, ومرّوا به يتلونه, أعرضوا عنه, وكأنهم لم يسمعوا ذلك قبل أن يؤمنوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم , لأنهم كانوا مسلمين على دين عيسى, ألا ترى أنهم يقولون: إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ .وقال آخرون في ذلك بما حدثنا ابن وكيع, قال: ثنا ابن عيينة, عن منصور, عن مجاهد ( وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) قال: نزلت في قوم كانوا مشركين فأسلموا, فكان قومهم يؤذونهم.حدثنا ابن حميد, قال: ثنا جويرية, عن منصور, عن مجاهد, قوله: ( وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ) قال: كان ناس من أهل الكتاب أسلموا, فكان المشركون يؤذونهم, فكانوا يصفحون عنهم, يقولون: ( سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ).وقوله: ( أَعْرَضُوا عَنْهُ ) يقول: لم يصغوا إليه ولم يستمعوه ( وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ) وهذا يدل على أن اللغو الذي ذكره الله في هذا الموضع, إنما هو ما قاله مجاهد, من أنه سماع القوم ممن يؤذيهم بالقول ما يكرهون منه في أنفسهم, وأهم أجابوهم بالجميل من القول ( لَنَا أَعْمَالُنَا ) قد رضينا بها لأنفسنا,( وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ) قد رضيتم بها لأنفسكم. وقوله: ( سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) يقول: أمنة لكم منا أن نُسَابَّكم, أو تسمعوا منا ما لا تحبون ( لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ) يقول: لا نريد محاورة أهل الجهل ومسابَّتهم.
﴿ وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ﴾