القرآن الكريم الفهرس التفسير الإعراب الترجمة القرآن mp3
القرآن الكريم

تفسير و معنى الآية 64 سورة المائدة - وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم

سورة المائدة الآية رقم 64 : سبع تفاسير معتمدة

سورة وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم - عدد الآيات 120 - رقم السورة - صفحة السورة في المصحف الشريف - .

تفسير و معنى الآية 64 من سورة المائدة عدة تفاسير - سورة المائدة : عدد الآيات 120 - - الصفحة 118 - الجزء 6.

سورة المائدة الآية رقم 64


﴿ وَقَالَتِ ٱلۡيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْۘ بَلۡ يَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيۡفَ يَشَآءُۚ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗاۚ وَأَلۡقَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ كُلَّمَآ أَوۡقَدُواْ نَارٗا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا ٱللَّهُۚ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادٗاۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ ﴾
[ المائدة: 64]

﴿ التفسير الميسر ﴾

يُطلع الله نَبِيَّه على شيء من مآثم اليهود -وكان مما يُسرُّونه فيما بينهم- أنهم قالوا: يد الله محبوسة عن فعل الخيرات، بَخِلَ علينا بالرزق والتوسعة، وذلك حين لحقهم جَدْب وقحط. غُلَّتْ أيديهم، أي: حبست أيديهم هم عن فِعْلِ الخيرات، وطردهم الله من رحمته بسبب قولهم. وليس الأمر كما يفترونه على ربهم، بل يداه مبسوطتان لا حَجْرَ عليه، ولا مانع يمنعه من الإنفاق، فإنه الجواد الكريم، ينفق على مقتضى الحكمة وما فيه مصلحة العباد. وفي الآية إثبات لصفة اليدين لله سبحانه وتعالى كما يليق به من غير تشبيه ولا تكييف. لكنهم سوف يزدادون طغيانًا وكفرًا بسبب حقدهم وحسدهم؛ لأن الله قد اصطفاك بالرسالة. ويخبر تعالى أن طوائف اليهود سيظلون إلى يوم القيامة يعادي بعضهم بعضًا، وينفر بعضهم من بعض، كلما تآمروا على الكيد للمسلمين بإثارة الفتن وإشعال نار الحرب ردَّ الله كيدهم، وفرَّق شملهم، ولا يزال اليهود يعملون بمعاصي الله مما ينشأ عنها الفساد والاضطراب في الأرض. والله تعالى لا يحب المفسدين.

﴿ تفسير الجلالين ﴾

«وقالت اليهود» لما ضيق عليهم بتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا أكثر الناس مالا «يد الله مغلولة» مقبوضة عن إدرار الرزق علينا كنوا به عن البخل - تعالى الله عن ذلك- قال تعالى: «غُلَّتْ» أمسكت «أيديهم» عن فعل الخيرات دعاء عليهم «ولُعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان» مبالغة في الوصف بالجود وثنى اليد لإفادة الكثرة إذ غاية ما يبذله السخي من ماله أن يعطي بيديه «ينفق كيف يشاء» من توسيع وتضيق لا اعتراض عليه «وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك» من القرآن «طغيانا وكفرا» لكفرهم به «وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة» فكل فرقة منهم تخالف الأخرى «كلما أوقدوا نارا للحرب» أي لحرب النبي صلى الله عليه وسلم «أطفأها الله» أي كلما أرادوه ردهم «ويسعَون في الأرض فسادا» أي مفسدين بالمعاصي «والله لا يحب المفسدين» بمعنى أنه يعاقبهم.

﴿ تفسير السعدي ﴾

يخبر تعالى عن مقالة اليهود الشنيعة، وعقيدتهم الفظيعة، فقال: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ْ أي: عن الخير والإحسان والبر.
غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ْ وهذا دعاء عليهم بجنس مقالتهم.
فإن كلامهم متضمن لوصف الله الكريم، بالبخل وعدم الإحسان.
فجازاهم بأن كان هذا الوصف منطبقا عليهم.
فكانوا أبخل الناس وأقلهم إحسانا، وأسوأهم ظنا بالله، وأبعدهم الله عن رحمته التي وسعت كل شيء، وملأت أقطار العالم العلوي والسفلي.
ولهذا قال: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ْ لا حجر عليه، ولا مانع يمنعه مما أراد، فإنه تعالى قد بسط فضله وإحسانه الديني والدنيوي، وأمر العباد أن يتعرضوا لنفحات جوده، وأن لا يسدوا على أنفسهم أبواب إحسانه بمعاصيهم.
فيداه سحاء الليل والنهار، وخيره في جميع الأوقات مدرارا، يفرج كربا، ويزيل غما، ويغني فقيرا، ويفك أسيرا ويجبر كسيرا, ويجيب سائلا، ويعطي فقيرا عائلا، ويجيب المضطرين، ويستجيب للسائلين.
وينعم على من لم يسأله، ويعافي من طلب العافية، ولا يحرم من خيره عاصيا، بل خيره يرتع فيه البر والفاجر، ويجود على أوليائه بالتوفيق لصالح الأعمال ثم يحمدهم عليها، ويضيفها إليهم، وهي من جوده ويثيبهم عليها من الثواب العاجل والآجل ما لا يدركه الوصف، ولا يخطر على بال العبد، ويلطف بهم في جميع أمورهم، ويوصل إليهم من الإحسان، ويدفع عنهم من النقم ما لا يشعرون بكثير منه، فسبحان من كل النعم التي بالعباد فمنه، وإليه يجأرون في دفع المكاره، وتبارك من لا يحصي أحد ثناء عليه, بل هو كما أثنى على نفسه، وتعالى من لا يخلو العباد من كرمه طرفة عين، بل لا وجود لهم ولا بقاء إلا بجوده.
وقبَّح الله من استغنى بجهله عن ربه، ونسبه إلى ما لا يليق بجلاله، بل لو عامل الله اليهود القائلين تلك المقالة، ونحوهم ممن حاله كحالهم ببعض قولهم، لهلكوا، وشقوا في دنياهم، ولكنهم يقولون تلك الأقوال، وهو تعالى, يحلم عنهم، ويصفح، ويمهلهم ولا يهملهم.
وقوله وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ْ وهذا أعظم العقوبات على العبد، أن يكون الذكر الذي أنزله الله على رسوله، الذي فيه حياة القلب والروح، وسعادة الدنيا والآخرة, وفلاح الدارين، الذي هو أكبر منة امتن الله بها على عباده, توجب عليهم المبادرة إلى قبولها, والاستسلام لله بها, وشكرا لله عليها, أن تكون لمثل هذا زيادة غي إلى غيه، وطغيان إلى طغيانه، وكفر إلى كفره، وذلك بسبب إعراضه عنها، ورده لها، ومعاندته إياها، ومعارضته لها بالشبه الباطلة.
وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ْ فلا يتآلفون، ولا يتناصرون, ولا يتفقون على حالة فيها مصلحتهم، بل لم يزالوا متباغضين في قلوبهم, متعادين بأفعالهم, إلى يوم القيامة كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ ْ ليكيدوا بها الإسلام وأهله، وأبدوا وأعادوا، وأجلبوا بخيلهم ورجلهم أَطْفَأَهَا اللَّهُ ْ بخذلانهم وتفرق جنودهم, وانتصار المسلمين عليهم.
وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ْ أي: يجتهدون ويجدون، ولكن بالفساد في الأرض، بعمل المعاصي، والدعوة إلى دينهم الباطل، والتعويق عن الدخول في الإسلام.
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ْ بل يبغضهم أشد البغض، وسيجازيهم على ذلك.


﴿ تفسير البغوي ﴾

( وقالت اليهود يد الله مغلولة ) قال ابن عباس وعكرمة والضحاك وقتادة : إن الله تعالى كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس مالا وأخصبهم ناحية فلما عصوا الله في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوا به كف الله عنهم ما بسط عليهم من السعة ، فعند ذلك قال فنحاص بن عازوراء : يد الله مغلولة ، أي : محبوسة مقبوضة عن الرزق نسبوه إلى البخل ، تعالى الله عن ذلك .
قيل : إنما قال هذه المقالة فنحاص ، فلما لم ينهه الآخرون ورضوا بقوله أشركهم الله فيها .
وقال الحسن : معناه " يد الله مكفوفة عن عذابنا فليس يعذبنا إلا ما تبر به قسمه قدر ما عبد آباؤنا العجل .
والأول أولى لقوله : " ينفق كيف يشاء " .
( غلت أيديهم ) أي : [ أمسكت ] أيديهم عن الخيرات .
وقال الزجاج : أجابهم الله تعالى فقال : أنا الجواد وهم البخلاء وأيديهم هي المغلولة الممسكة .
وقيل : هو من الغل في النار يوم القيامة لقوله تعالى : " إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل " ( غافر ، 71 ) .
) ( ولعنوا ) عذبوا ، ) ( بما قالوا ) فمن لعنهم أنهم مسخوا قردة وخنازير وضربت عليهم الذلة والمسكنة في الدنيا وفي الآخرة بالنار ، ( بل يداه مبسوطتان ) ويد الله صفة من [ صفاته ] كالسمع ، والبصر والوجه ، وقال جل ذكره : " لما خلقت بيدي " ( ص ، 75 ) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " كلتا يديه يمين " والله أعلم بصفاته ، فعلى العباد فيها الإيمان والتسليم .
وقال أئمة السلف من أهل السنة في هذه الصفات : " أمروها كما جاءت بلا كيف " .
) ( ينفق ) يرزق ، ( كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ) أي : كلما نزلت آية كفروا بها وازدادوا طغيانا وكفرا ، [ كلما نزلت آية ] ( وألقينا بينهم العداوة والبغضاء ) يعني : بين اليهود والنصارى ، قاله الحسن ومجاهد : وقيل بين طوائف اليهود جعلهم الله مختلفين في دينهم متباغضين ( إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ) يعني : اليهود أفسدوا وخالفوا حكم التوراة ، فبعث الله عليهم بختنصر ، ثم أفسدوا فبعث الله عليهم طيطوس الرومي ، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس ، ثم أفسدوا فبعث الله عليهم المسلمين .
وقيل : كلما أجمعوا أمرهم ليفسدوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأوقدوا نار المحاربة أطفأها الله ، فردهم وقهرهم ونصر نبيه ودينه ، هذا معنى قول الحسن ، وقال قتادة : هذا عام في كل حرب طلبته اليهود فلا تلقى اليهود في البلد إلا وجدتهم من أذل الناس ، ( ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين ) .

﴿ تفسير الوسيط ﴾

قال ابن عباس: قال رجل من اليهود يقال له شاس بن قيس: يا محمد إن ربك بخيل لا ينفق.
فأنزل الله هذه الآية .
وقد أضاف- سبحانه- المقالة إلى اليهود جميعا، لأنهم لم ينكروا على القائل ما قاله ورضوا به.
وقال عكرمة: إنما قال هذا فنحاص بن عازوراء وأصحابه.
فقد كانت لهم أموال فلما كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم قل ما لهم، فقالوا ما قالوا.
وقيل: إنهم لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في فقر وقلة مال وسمعوا مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً قالوا: إن إله محمد بخيل .
وقوله- تعالى- حكاية عنهم: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ إخبار من الله عن جراءة اليهود عليه- سبحانه- وسوء أدبهم معه، وتوبيخ لهم على جحودهم نعمه التي لا تحصى.
وأرادوا بقولهم: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ: أنه- سبحانه- بخيل عليهم، ممسك خيره عنهم، مانع فضله عن أن يصل إليهم، حابس عطاءه عن الاتساع لهم، كالمغلولة يده الذي لا يقدر أن يبسطها بعطاء ولا بذل معروف.
وأصل الغل- كما يقول الراغب- تدرع الشيء وتوسطه، ومنه الغلل للماء الجاري بين الشجر.
والغل مختص بما يقيد به الشخص فيجعل الأعضاء وسطه، وجمعه أغلال .
وليس المراد باليد هنا الجارحة المعروفة بهذا الاسم، لأن الله- تعالى- منزه عن مشابهة الحوادث.
وإنما غل اليد وبسطها مجاز مشهور عن التقتير والعطاء.
والسبب فيه أن اليد آلة لأكثر الأعمال، لا سيما في دفع المال وإنفاقه.
فأطلقوا اسم السبب على المسبب، وأسندوا الجود والبخل إلى اليد والكف فقيل للجواد فياض اليد، مبسوط الكف، وقيل للبخيل: مقبوض اليد، كز الكف.
وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف بقوله: «غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود، ومنه قوله- تعالى- وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ ولا يقصد من يتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط.
ولا فرق عنده بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازا عنه، لأنهما كلامان معتقبان على حقيقة واحدة، حتى إنه يستعمله في ملك لا يعطى عطاء قط ولا يمنعه إلا بإشارته من غير استعمال يد وقبضها وبسطها.
ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزيلا لقالوا: ما أبسط يده بالنوال، لأن بسط اليد وقبضها عبارتان معاقبتان البخل والجود.
وقد استعملوهما حيث لا تصح اليد كقول القائل:جاد الحمى بسط اليدين بوابل .
.
.
شكرت نداه تلاعه ووهادهويقال: بسط اليأس كفيه في صدري، فجعلت لليأس الذي هو من المعاني لا من الأعيان كفين.
وقد علق صاحب الانتصاف على قول صاحب الكشاف «غل اليد وبسطها مجاز» فقال:والنكتة في استعمال هذا المجاز تصوير الحقيقة المعنوية بصورة حسية تلزمها غالبا، وهي بسط اليد للجود وقبضها للبخل، ولا شيء أثبت من الصور الحسية في الذهن، فلما كان الجود والبخل معنيين لا يدر كان بالحس.
عبر عنهما بلازمهما لفائدة الإيضاح والانتقال من المعنويات إلى المحسوسات .
وقوله: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا دعاء عليهم بالشح المرير والبخل الشنيع بأن يخلق- سبحانه- فيهم الشح الذي يجعلهم منبوذين من الناس ومن ثم كان اليهود أبخل خلق الله، وحكم عليهم بالطرد من رحمة الله- تعالى- بسبب سوء أدبهم معه- سبحانه- وجحودهم لنعمه.
وهذه الجملة تعليم من الله لنا بأن ندعو على من فسدت قلوبهم، وأساءوا الأدب مع خالقهم ورازقهم، فقالوا في شأنه ما هو منزه عنه- تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
قال الآلوسى ما ملخصه: ويجوز أن يكون المراد بغل الأيدى الحقيقة، بأن يغلوا في الدنيا أسارى- وفي الآخرة معذبين في أغلال جهنم.
ومناسبة هذا لما قبله حينئذ من حيث اللفظ فقط فيكون تجنيسا.
وقيل من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز كما تقوله: سبني سب الله دابره أى قطعه، لأن السب أصله القطع .
وقوله: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ معطوف على مقدر يقتضيه المقام، وتكذيب لهم فيما قالوه من باطل.
والمعنى: كلا- أيها اليهود- ليس الأمر كما زعمتم من قول باطل، بل هو- سبحانه- الواسع الفضل، الجزيل العطاء، الذي ما من شيء إلا عنده خزائنه.
فبسط اليد هنا كناية عن الجود والفضل والإنعام منه- سبحانه- على خلقه.
وعبر بالمثنى فقال: بَلْ يَداهُ للإشارة إلى كثرة الفيض والإنعام، لأن الجواد السخي إذا أراد أن يبالغ في العطاء أعطى بكلتا يديه.
قال ابن كثير قوله: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ أى: بل هو الواسع الفضل.
الذي ما يخلقه من نعمة فمنه وحده لا شريك له.
كما قال: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ والآيات في هذا كثيرة.
وقد روى الإمام أحمد والشيخان عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة- أى لا ينقصها الإنفاق- سحاء- أى مليئة- الليل والنهار.
أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه.
وكان عرشه على الماء، وفي يده الأخرىالفيض- أو القبض- يرفع ويخفض وقال: يقول الله- تعالى-: أنفق أنفق عليك» .
وقوله: يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ جملة مستأنفة واردة لتأكيد كمال جوده، والدلالة على أنه على مقتضى حكمته ومشيئته فهو- سبحانه- يبسط الرزق لمن يشاء أن يبسطه له ويقبضه عمن يشاء أن يقبضه عنه، وقبضه الرزق عمن يشاء من خلقه لا ينافي سعة كرمه، لأنه يعطى ويمنع على حسب مشيئته التي أقام بها نظام خلقه.
ثم بين- سبحانه- موقفهم الجحودى مما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً.
أى: إن ما أنزلنا عليك يا محمد من قرآن كريم، وما أطلعناك عليه من خفى أمور هؤلاء اليهود، ومن أحوال سلفهم كل ذلك ليزيدن الكثيرين منهم كفرا على كفرهم، وطغيانا على طغيانهم، وذلك لأنهم قوم أكل الحقد قلوبهم، واستولى الحسد على نفوسهم.
وإذا كان ما أنزلناه إليك يا محمد فيه الشفاء لنفوس المؤمنين، فإنه بالنسبة لهؤلاء اليهود يزيدهم بغيا وظلما وكفرا.
قال- تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً .
فالجملة الكريمة بيان لموقف اليهود الجحودى من الآيات التي أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وهي في الوقت ذاته تسلية له صلى الله عليه وسلم عما يلقاه منهم.
وقد أكد- سبحانه- هذه الجملة بالقسم المطوى، وباللام الموطئة له، ونون التوكيد الثقيلة لكي ينتفى الرجاء في إيمانهم، وليعاملهم النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه على أساس مكنون نفوسهم الخبيثة، وقلوبهم المريضة بالحسد والخداع.
وقوله كَثِيراً هو المفعول الأول لقوله وَلَيَزِيدَنَّ وفاعله ما الموصولة في قوله ما أُنْزِلَ وقوله طُغْياناً هو المفعول الثاني.
ثم زاد- سبحانه- في تسلية رسوله صلى الله عليه وسلم فأصدر حكمه فيهم بدوام العداوة والبغضاء بين طوائفهم وفرقهم فقال: وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فالضمير في قوله بَيْنَهُمُ يعود إلى فرق اليهود المختلفة من فريسيين وصدوقيين وقرائين، وكتبة وغير ذلك من فرقهم المتعددة.
وقيل: الضمير يعود إلى طائفتى اليهود والنصارى.
والأول أرجح لأن الحديث في هذه الآية عن اليهود الذين وصفوا الله- تعالى- بما هو منزه عنه.
والعداوة والبغضاء يرى بعضهم أنهما اسمان لمعنى واحد.
ويرى آخرون أن معناهما مختلف.
فالعداوة معناها المناوأة الظاهرة، والبغضاء هي الكراهية التي تكون في القلب.
فهما معنيان متغايران وإن كانا متلازمين أحيانا.
فلا عداوة من غير بغضاء، ولكن قد يفترقان فتوجد البغضاء من غير إعلان للعداوة.
قال أبو حيان: والعداوة أخص من البغضاء لأن كل عدو مبغض وقد يبغض من ليس التي تكون في القلب.
فهما معنيان متغايران وإن كانا متلازمين أحيانا.
فلا عداوة من غير بغضاء، ولكن قد يفترقان فتوجد البغضاء من غير إعلان للعداوة.
قال أبو حيان: والعداوة أخص من البغضاء لأن كل عدو مبغض وقد يبغض من ليس بعدو.
وقال ابن عطية.
وكأن العداوة شيء يشهد، يكون عنه عمل وحرب، والبغضاء لا تتجاوز النفوس .
والمعنى: وألقينا بين طوائف اليهود المتعددة العداوة الدائمة، والبغضاء المستمرة، فأنت تراهم كلمتهم مختلفة، وقلوبهم شتى وكل فرقة منهم تلصق النقائص بالأخرى، وهم على هذه الحال إلى يوم القيامة.
وما أظهره اليهود في هذا العصر من تعاون وتساند جعلهم ينشئون دولة لهم بفلسطين، هو أمر مؤقت، فإن هذه الدولة لن تستمر طويلا، بل ستعود إلى أهلها المسلمين متى صدقوا في جهادهم واتبعوا تعاليم دينهم.
قال الفخر الرازي: واعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها، هو أنه- تعالى- بين أن هؤلاء اليهود إنما ينكرون نبوته صلى الله عليه وسلم بعد ظهور الدلائل على صحتها، لأجل الحسد.
ولأجل حب الجاه والمال.
ثم إنه- تعالى- بين أنهم لما رجحوا الدنيا على الآخرة، لا جرم أنه- تعالى- كما حرمهم سعادة الدين، فكذلك حرمهم سعادة الدنيا، لأن كل فريق منهم بقي مصرا على مذهبه ومقالته.
.
فصار ذلك سببا لوقوع الخصومة الشديدة بين فرقهم وطوائفهم.
وانتهى الأمر فيه إلى أن بعضهم يكفر بعضا.
ويحارب بعضهم بعضا.
فإن قلت: فهذا المعنى حاصل أيضا بين فرق المسلمين فكيف يمكن جعله عيبا على الكتابيين حتى يذموا عليه؟قلنا: بدعة التفرق التي حصلت في المسلمين إنما حدثت بعد عصر النبوة وعصر الصحابة والتابعين.
أما في الصدر الأول فلم يكن شيء من ذلك حاصلا بينهم فحسن جعل ذلك عيبا على الكتابيين في ذلك العصر الذي نزل فيه القرآن» .
وقوله: كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ أى: كلما أرادوا حرب الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وهيئوا الأسباب لذلك وحاولوا تفريق كلمتهم وإثارة العداوة بينهم.
كلما فعلوا ذلك أفسد الله عليهم خطتهم، وأحبط مكرهم، وألقى الرعب في قلوبهم.
والتعبير بهذه الجملة الكريمة جاء على وفق ما جرى عليه العرب من أنهم كانوا إذا أرادوا حربا بالإغارة على غيرهم أوقدوا نارا يسمونها نار الحرب.
والتعبير هنا لذلك على سبيل المجاز إذ عبر- سبحانه- عن إثارة الحروب بإيقاد نارها.
باعتبار أن الحروب في ذاتها وبما تشتمل عليه من مذابح بشرية تشبه النار المستعرة في أخطارها ومصائبها.
وقوله: وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ تذييل مقرر لما قبله من الصفات الذميمة التي دمغ الله- تعالى- بها اليهود.
أى: أن حال هؤلاء اليهود أنهم يجتهدون في الكيد للإسلام وأهله وأنهم يسعون سعيا حثيثا للإفساد في الأرض عن طريق إثارة الفتن، وإيقاظ الأحقاد بين الناس.
والله- تعالى- لا يحب المفسدين بل يبغضهم ويمقتهم، لإيثارهم الضلالة على الهدى، والشر على الخير.
وبهذا نرى الآية الكريمة قد ردت على اليهود في نسبتهم البخل إلى الله- تعالى- وبينت أنه- سبحانه- هو الواسع الفضل، الجزيل العطاء وكشفت عن جوانب من رذائلهم وعنادهم وأوضحت أنه- سبحانه- يبغضهم لأنهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
ولقد بسطنا القول في مظاهر فسادهم في الأرض في غير هذا الموطن فارجع إليه إن شئت .
وبعد أن حكى- سبحانه- ما حكى من رذائل أهل الكتاب وخصوصا اليهود عقب ذلك بفتح باب الخير لهم متى آمنوا واتقوا فقال- تعالى:

﴿ تفسير ابن كثير ﴾

يخبر تعالى عن اليهود - عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة - بأنهم وصفوا الله عز وجل وتعالى عن قولهم علوا كبيرا ، بأنه بخيل . كما وصفوه بأنه فقير وهم أغنياء ، وعبروا عن البخل بقولهم : ( يد الله مغلولة )قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبد الله الطهراني ، حدثنا حفص بن عمر العدني ، حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة قال : قال ابن عباس : ( مغلولة ) أي : بخيلة .وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( وقالت اليهود يد الله مغلولة ) قال : لا يعنون بذلك أن يد الله موثقة ولكن يقولون : بخيل أمسك ما عنده ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا .وكذا روي عن عكرمة وقتادة والسدي ومجاهد والضحاك وقرأ : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ) [ الإسراء : 29 ] . يعني : أنه ينهى عن البخل وعن التبذير ، وهو الزيادة في الإنفاق في غير محله ، وعبر عن البخل بقوله : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ) .وهذا هو الذي أراد هؤلاء اليهود عليهم لعائن الله . وقد قال عكرمة : إنها نزلت في فنحاص اليهودي عليه لعنة الله . وقد تقدم أنه الذي قال : ( إن الله فقير ونحن أغنياء ) [ آل عمران : 181 ] فضربه أبو بكر الصديق رضي الله عنه .وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس قال : قال رجل من اليهود يقال له : شاس بن قيس : إن ربك بخيل لا ينفق ، فأنزل الله : ( وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء )وقد رد الله عز وجل عليهم ما قالوه ، وقابلهم فيما اختلقوه وافتروه وائتفكوه ، فقال : ( غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا ) وهكذا وقع لهم ، فإن عندهم من البخل والحسد والجبن والذلة أمر عظيم ، كما قال تعالى : ( أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله [ فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا ] ) [ النساء : 53 - 55 ] وقال تعالى : ( ضربت عليهم الذلة [ أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس ] ) الآية [ آل عمران : 112 ] .ثم قال تعالى : ( بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ) أي : بل هو الواسع الفضل ، الجزيل العطاء ، الذي ما من شيء إلا عنده خزائنه ، وهو الذي ما بخلقه من نعمة فمنه وحده لا شريك له ، الذي خلق لنا كل شيء مما نحتاج إليه ، في ليلنا ونهارنا ، وحضرنا وسفرنا ، وفي جميع أحوالنا ، كما قال [ تعالى ] ( وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار ) الآية [ إبراهيم : 34 ] . والآيات في هذا كثيرة ، وقد قال الإمام أحمد بن حنبل :حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن همام بن منبه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة ، سحاء الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض ، فإنه لم يغض ما في يمينه " قال : " وعرشه على الماء ، وفي يده الأخرى القبض ، يرفع ويخفض " : قال : قال الله تعالى : " أنفق أنفق عليك " أخرجاه في الصحيحين ، البخاري في " التوحيد " عن علي ابن المديني ، ومسلم فيه عن محمد بن رافع وكلاهما عن عبد الرزاق به .وقوله : ( وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ) أي : يكون ما أتاك الله يا محمد من النعمة نقمة في حق أعدائك من اليهود وأشباههم ، فكما يزداد به المؤمنون تصديقا وعملا صالحا وعلما نافعا ، يزداد به الكفرة الحاسدون لك ولأمتك ) طغيانا ) وهو : المبالغة والمجاوزة للحد في الأشياء ) وكفرا ) أي : تكذيبا ، كما قال تعالى : ( قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد ) [ فصلت : 44 ] وقال تعالى : ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ) [ الإسراء : 82 ] .وقوله : ( وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ) يعني : أنه لا تجتمع قلوبهم ، بل العداوة واقعة بين فرقهم بعضهم في بعض دائما لأنهم لا يجتمعون على حق ، وقد خالفوك وكذبوك .وقال إبراهيم النخعي : ( وألقينا بينهم العداوة والبغضاء ) قال : الخصومات والجدال في الدين . رواه ابن أبي حاتم .وقوله : ( كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ) أي : كلما عقدوا أسبابا يكيدونك بها ، وكلما أبرموا أمورا يحاربونك بها يبطلها الله ويرد كيدهم عليهم ، ويحيق مكرهم السيئ بهم .( ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين ) أي : من سجيتهم أنهم دائما يسعون في الإفساد في الأرض ، والله لا يحب من هذه صفته .

﴿ تفسير القرطبي ﴾

قوله : وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدينقوله تعالى : وقالت اليهود يد الله مغلولة قال عكرمة : إنما قال هذا فنحاص بن عازوراء ، لعنه الله ، وأصحابه ، وكان لهم أموال فلما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم قل مالهم ; فقالوا : إن الله بخيل ، ويد الله مقبوضة عنا في العطاء ; فالآية خاصة في بعضهم ، وقيل : لما قال قوم هذا ولم ينكر الباقون صاروا كأنهم بأجمعهم قالوا هذا ، وقال الحسن : المعنى يد الله مقبوضة عن عذابنا ، وقيل : إنهم لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في فقر وقلة مال وسمعوا من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ورأوا النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يستعين بهم في الديات قالوا : إن إله محمد فقير ، وربما قالوا : بخيل ; وهذا معنى قولهم : يد الله مغلولة فهذا على التمثيل كقوله : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ، ويقال للبخيل : جعد الأنامل ، ومقبوض الكف ، وكز الأصابع ، ومغلول اليد ; قال الشاعر :كانت خراسان أرضا إذ يزيد بها وكل باب من الخيرات مفتوح فاستبدلت بعده جعدا أناملهكأنما وجهه بالخل منضوحواليد في كلام العرب تكون للجارحة كقوله تعالى : وخذ بيدك ضغثا وهذا محال على الله تعالى ، وتكون للنعمة ; تقول العرب : كم يد لي عند فلان ، أي : كم من نعمة لي قد أسديتها له ، وتكون للقوة ; قال الله عز وجل : واذكر عبدنا داود ذا الأيد ، أي : ذا القوة وتكون للملك والقدرة ; قال الله تعالى : قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء .
وتكون بمعنى الصلة ، قال الله تعالى : مما عملت أيدينا أنعاما أي : مما عملنا نحن ، وقال : أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح البقرة : 2 أي الذي له عقدة النكاح ، وتكون بمعنى التأييد والنصرة ، ومن قوله عليه السلام : يد الله مع القاضي حتى يقضي والقاسم حتى يقسم ، وتكون لإضافة الفعل إلى المخبر عنه تشريفا له وتكريما ; قال الله تعالى : يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي فلا يجوز أن يحمل على الجارحة ; لأن الباري جل وتعالى واحد لا يجوز عليه التبعيض ، ولا على القوة والملك والنعمة والصلة ، لأن الاشتراك يقع حينئذ .
بين وليه آدم وعدوه إبليس ، ويبطل ما ذكر من تفضيله عليه ; لبطلان معنى التخصيص ، فلم يبق إلا أن تحمل على صفتين تعلقتا بخلق آدم تشريفا له دون خلق إبليس تعلق القدرة بالمقدور ، لا من طريق المباشرة ولا من حيث المماسة ; ومثله ما روي أنه عز اسمه وتعالى علاه وجده أنه كتب التوراة بيده ، وغرس دار الكرامة بيده لأهل الجنة ، وغير ذلك تعلق الصفة بمقتضاها .
قوله تعالى : غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا حذفت الضمة من الياء لثقلها ; أي : غلت في الآخرة ، ويجوز أن يكون دعاء عليهم ، وكذا ولعنوا بما قالوا والمقصود تعليمنا كما قال : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله ; علمنا الاستثناء كما علمنا الدعاء على أبي لهب بقوله : تبت يدا أبي لهب وقيل : المراد أنهم أبخل الخلق ; فلا ترى يهوديا غير لئيم ، وفي الكلام على هذا القول إضمار الواو ; أي : قالوا : يد الله مغلولة وغلت أيديهم .
واللعن الإبعاد ، وقد تقدم .
قوله تعالى : بل يداه مبسوطتان ابتداء وخبر ; أي : بل نعمته مبسوطة ; فاليد بمعنى النعمة .
قال بعضهم : هذا غلط ; لقوله : بل يداه مبسوطتان فنعم الله تعالى أكثر من أن تحصى فكيف تكون بل نعمتاه مبسوطتان ؟ وأجيب بأنه يجوز أن يكون هذا تثنية جنس لا تثنية واحد مفرد ; فيكون مثل قوله عليه السلام : مثل المنافق كالشاة العائرة بين الغنمين .
فأحد الجنسين نعمة الدنيا ، والثاني نعمة الآخرة .
وقيل : نعمتا الدنيا النعمة الظاهرة والنعمة الباطنة ; كما قال : وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة .
وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال فيه : النعمة الظاهرة ما حسن من خلقك ، والباطنة ما ستر عليك من سيئ عملك ، وقيل : نعمتاه المطر والنبات اللتان النعمة بهما ومنهما .
وقيل : إن النعمة للمبالغة ; كقول العرب : ( لبيك وسعديك ) وليس يريد الاقتصار على مرتين ; وقد يقول القائل : ما لي بهذا الأمر يد أي : قوة .
قال السدي ; معنى قوله يداه قوتاه بالثواب والعقاب ، بخلاف ما قالت اليهود : إن يده مقبوضة عن عذابهم ، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله تعالى قال لي أنفق أنفق عليك ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يمين الله ملأى لا يغيضها سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق مذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه - قال - وعرشه على الماء وبيده الأخرى القبض يرفع ويخفض .
السح الصب الكثير ، ويغيض ينقص ; ونظير هذا الحديث قوله جل ذكره : والله يقبض ويبسط .
وأما هذه الآية ففي قراءة ابن مسعود " بل يداه بسطان " حكاه الأخفش ، وقال يقال : يد بسطة ، أي : منطلقة منبسطة .
ينفق كيف يشاء أي : يرزق كما يريد ، ويجوز أن تكون اليد في هذه الآية بمعنى القدرة ; أي : قدرته شاملة ، فإن شاء وسع وإن شاء قتر .
وليزيدن كثيرا منهم لام قسم .
ما أنزل إليك من ربك أي : بالذي أنزل إليك .
طغيانا وكفرا أي : إذا نزل شيء من القرآن فكفروا ازداد كفرهم .
وألقينا بينهم قال مجاهد : أي : بين اليهود والنصارى ; لأنه قال قبل هذا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ، وقيل : أي : ألقينا بين طوائف اليهود ، كما قال : تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى فهم متباغضون غير متفقين ; فهم أبغض خلق الله إلى الناس .
كلما أوقدوا نارا للحرب يريد اليهود .
وكلما ظرف أي : كلما جمعوا وأعدوا شتت الله جمعهم ، وقيل : إن اليهود لما أفسدوا وخالفوا كتاب الله - التوراة - أرسل الله عليهم بختنصر ، ثم أفسدوا فأرسل عليهم بطرس الرومي ، ثم أفسدوا فأرسل عليهم المجوس ، ثم أفسدوا فبعث الله عليهم المسلمين ; فكانوا كلما استقام أمرهم شتتهم الله فكلما أوقدوا نارا أي : أهاجوا شرا ، وأجمعوا أمرهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم أطفأها الله وقهرهم ووهن أمرهم فذكر النار مستعار .
قال قتادة : أذلهم الله عز وجل ; فلقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم وهم تحت أيدي المجوس ، ثم قال جل وعز : ويسعون في الأرض فسادا أي : يسعون في إبطال الإسلام ، وذلك من أعظم الفساد ، والله أعلم وقيل : المراد بالنار هنا نار الغضب ، أي : كلما أوقدوا نار الغضب في أنفسهم وتجمعوا بأبدانهم وقوة النفوس منهم باحتدام نار الغضب أطفأها الله حتى يضعفوا ; وذلك بما جعله من الرعب نصرة بين يدي نبيه صلى الله عليه وسلم .

﴿ تفسير الطبري ﴾

القول في تأويل قوله : وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُقال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن جرأة اليهود على ربهم، ووصفهم إياه بما ليس من صفته، توبيخًا لهم بذلك، وتعريفًا منه نبيَّه صلى الله عليه وسلم قديمَ جهلهم واغترارهم به، وإنكارهم جميع جميل أياديه عندهم، وكثرة صفحه عنهم وعفوه عن عظيم إجرامهم= واحتجاجًا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأنه له نبيٌّ مبعوث ورسول مرسل: أنْ كانت هذه الأنباء التي أنبأهم بها كانت من خفيِّ علومهم ومكنونها التي لا يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم دون غيرهم من اليهود، فضلا عن الأمة الأمية من العرب الذين لم يقرأوا كتابًا، ولاوَعَوْا من علوم أهل الكتاب علمًا، فأطلع الله على ذلك نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، ليقرر عندهم صدقه، ويقطع بذلك حجتهم.
* * *يقول تعالى ذكره: " وقالت اليهود "، من بني إسرائيل=" يد الله مغلولة "، يعنون: أن خير الله مُمْسَك وعطاؤه محبوس عن الاتساع عليهم، كما قال تعالى ذكره في تأديب نبيه صلى الله عليه وسلم: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [سورة الإسراء: 29].
* * *وإنما وصف تعالى ذكره " اليد " بذلك، والمعنى العَطاء، لأن عطاء الناس وبذلَ معروفهم الغالبَ بأيديهم.
فجرى استعمال الناس في وصف بعضهم بعضًا، إذا وصفوه بجود وكرم، أو ببخل وشحّ وضيق، بإضافة ما كان من ذلك من صفة الموصوف إلى يديه، كما قال الأعشى في مدح رجل:يَدَاكَ يَدَا مَجْدٍ, فَكَفٌ مُفِيدَةٌوَكَفٌّ إذَا مَا ضُنَّ بِالزَّادِ تُنْفِقُ (56)فأضاف ما كان صفة صاحب اليد من إنفاق وإفادة إلى " اليد ".
ومثل ذلك من كلام العرب في أشعارها وأمثالها أكثر من أن يُحْصى.
فخاطبهم الله بما يتعارفونه ويتحاورونه بينهم في كلامهم فقال: " وقالت اليهود يد الله مغلولة "، يعني بذلك: أنهم قالوا: إن الله يبخل علينا، ويمنعنا فضله فلا يُفْضِل، كالمغلولة يده الذي لا يقدر أن يبسطَها بعطاء ولا بذلِ معروف، تعالى الله عما قالوا، أعداءَ الله! (57)فقال الله مكذِّبَهم ومخبرَهم بسخَطه عليهم: " غلت أيديهم "، يقول: أمسكت أيديهم عن الخيرات، وقُبِضت عن الانبساط بالعطيات=" ولعنوا بما قالوا "، وأبعدوا من رحمة الله وفضله بالذي قالوا من الكفر، وافتروا على الله ووصفوه به من الكذب والإفك (58)=" بل يداه مبسوطتان "، يقول: بل يداه مبسوطتان بالبذل والإعطاء وأرزاق عباده وأقوات خلقه، غيُر مغلولتين ولا مقبوضتين (59) =" ينفق كيف يشاء "، يقول: يعطي هذا، ويمنع هذا فيقتِّر عليه.
(60)* * *وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:12242 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: " وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا "، قال: ليس يعنون بذلك أن يد الله موثقةٌ، ولكنهم يقولون: إنه بخيل أمسك ما عنده، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيًرا.
12243 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: " يد الله مغلولة "، قالوا: لقد تَجَهَّدنا الله = يا بني إسرائيل، (61) حتى جعل الله يده إلى نحره! وكذبوا!12244 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " يد الله مغلولة "، قال: اليهود تقوله: (62) لقد تجهَّدنا الله يا بني إسرائيل ويا أهل الكتاب، (63) حتى إن يده إلى نحره=" بل يداه مبسوطتان، ينفق كيف يشاء ".
12245 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا " إلى وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ، أما قوله: " يد الله مغلولة "، قالوا: الله بخيل غير جواد! قال الله: " بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ".
12246 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء "، قالوا: إن الله وضع يده على صدره، فلا يبسطها حتى يردّ علينا ملكنا.
* * *= وأما قوله: " ينفق كيف يشاء "، يقول: يرزق كيف يشاء.
12247 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عكرمة: " وقالت اليهود يد الله مغلولة " الآية، نزلت في فنْحاص اليهوديّ.
12248 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان، عن الضحاك بن مزاحم قوله: " يد الله مغلولة "، يقولون: إنه بخيل ليس بجواد! قال الله: " غلت أيديهم "، أمسكت أيديهم عن النفقة والخير.
ثم قال يعني نفسه: " بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ".
وقال: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ [سورة الإسراء: 29]، يقول: لا تمسك يدك عن النفقة.
* * *قال أبو جعفر: واختلف أهل الجدل في تأويل قوله: " بل يداه مبسوطتان ".
(64) فقال بعضهم: عنى بذلك: نِعمتاه.
وقال: ذلك بمعنى: " يد الله على خلقه "، وذلك نعمه عليهم.
وقال: إن العرب تقول: " لك عندي يد "، يعنون بذلك: نعمةٌ.
* * *وقال آخرون منهم: عنى بذلك القوة.
وقالوا: ذلك نظير قول الله تعالى ذكره: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي [سورة ص: 45].
* * *وقال آخرون منهم: بل " يده "، ملكه.
وقال: معنى قوله: " وقالت اليهود يد الله مغلولة "، ملكه وخزائنه.
قالوا: وذلك كقول العرب للمملوك: " هو ملك يمينه "، و " فلان بيده عُقدة نكاح فلانة "، أي يملك ذلك، وكقول الله تعالى ذكره: فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ، [سورة المجادلة: 12].
* * *وقال آخرون منهم: بل " يد الله " صفة من صفاته، هي يد، غير أنها ليست بجارحة كجوارح بني آدم.
قالوا: وذلك أنّ الله تعالى ذكره أخبرَ عن خصوصه آدم بما خصّه به من خلقه إياه بيده.
(65)قالوا: ولو كان [معنى " اليد "، النعمة، أو القوة، أو الملك، ما كان لخصوصِه] آدم بذلك وجه مفهوم، (66) إذ كان جميع خلقه مخلوقين بقدرته، ومشيئتُه في خلقه تعمةٌ، وهو لجميعهم مالك.
قالوا: وإذ كان تعالى ذكره قد خص آدم بذكره خلقَه إياه بيده دون غيره من عباده، كان معلومًا أنه إنما خصه بذلك لمعنى به فارق غيره من سائر الخلق.
قالوا: وإذا كان ذلك كذلك، بطل قول من قال: معنى " اليد " من الله، القوة والنعمة أو الملك، في هذا الموضع.
قالوا: وأحرى أن ذلك لو كان كما قال الزاعمون أن: " يد الله " في قوله: " وقالت اليهود يد الله مغلولة "، هي نعمته، لقيل: " بل يده مبسوطة "، ولم يقل: " بل يداه "، لأن نعمة الله لا تحصى كثرة.
(67) وبذلك جاء التنزيل، يقول الله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [سورة إبراهيم: 34 وسورة النحل: 18]قالوا: ولو كانت نعمتين، كانتا محصاتين.
قالوا: فإن ظن ظانٌّ أن النعمتين بمعنى النعم الكثيرة، فذلك منه خطأ، وذلك أنّ العرب قد تخرج الجميع بلفظ الواحد لأداء الواحد عن جميع جنسه، وذلك كقول الله تعالى ذكره: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ [سورة العصر: 1، 2] وكقوله (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ)، [سورة الحجر: 26] وقوله: وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا [سورة الفرقان: 55]، قال: فلم يُرَدْ ب" الإنسان " و " الكافر " في هذه الأماكن إنسان بعينه، ولا كافر مشار إليه حاضر، بل عني به جميع الإنس وجميع الكفار، ولكن الواحد أدَّى عن جنسه، كما تقول العرب: " ما أكثر الدرهم في أيدي الناس "، وكذلك قوله: وَكَانَ الْكَافِرُ معناه: وكان الذين كفروا.
قالوا: فأما إذا ثنَّى الاسم، فلا يؤدي عن الجنس، ولا يؤدّي إلا عن اثنين بأعيانهما دون الجميع ودون غيرهما.
(68)قالوا: وخطأ في كلام العرب أن يقال: " ما أكثر الدرهمين في أيدي الناس "، بمعنى: ما أكثر الدراهم في أيديهم.
قالوا: وذلك أن الدرهم إذا ثنِّي لا يؤدي في كلامها إلا عن اثنين بأعيانهما.
قالوا: وغيرُ محال: " ما أكثر الدرهم في أيدي الناس "، و " ما أكثر الدراهم في أيديهم "، لأن الواحد يؤدي عن الجميع.
قالوا: ففي قول الله تعالى: " بل يداه مبسوطتان "، مع إعلامه عبادَه أن نعمه لا تحصى، مع ما وصفنا من أنه غير معقول في كلام العرب أن اثنين يؤدّيان عن الجميع= ما ينبئ عن خطأ قول من قال: معنى " اليد "، في هذا الموضع، النعمة= وصحةِ قول من قال: إن " يد الله "، هي له صفة.
قالوا: وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال به العلماء وأهل التأويل.
* * *القول في تأويل قوله : وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًاقال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن هذا الذي أطلعناك عليه من خفيِّ أمور هؤلاء اليهود، مما لا يعلمه إلا علماؤهم وأحبارهم، احتجاجًا عليهم لصحة نبوتك، وقطعًا لعذر قائلٍ منهم أن يقول: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ =: " ليزيدن كثيرًا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانًا وكفرًا ".
يعني ب" الطغيان ": الغلو في إنكار ما قد علموا صحته من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والتمادي في ذلك=" وكفرًا "، يقول: ويزيدهم مع غلوِّهم في إنكار ذلك، جحودَهم عظمة الله ووصفهم إياه بغير صفته، بأن ينسبوه إلى البخل، ويقولوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ .
وإنما أعلم تعالى ذكره نبيَّه صلى الله عليه وسلم أنهم أهل عتوّ وتمرُّدٍ على ربهم، وأنهم لا يذعنون لحقّ وإن علموا صحته، ولكنهم يعاندونه، يسلِّي بذلك نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم عن الموجِدة بهم في ذهابهم عن الله، وتكذيبهم إياه.
* * *وقد بينت معنى " الطغيان " فيما مضى بشواهده، بما أغنى عن إعادته.
(69)* * *وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:12249 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: " وليزيدن كثيرًا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانًا وكفرًا "، حملهم حسدُ محمد صلى الله عليه وسلم والعرب على أن كفروا به، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم.
* * *القول في تأويل قوله : وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِقال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة "، بين اليهود و النصارى، كما:-12250 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة "، اليهود والنصارى.
* * *فإن قال قائل: وكيف قيل: " وألقينا بينهم العداوة والبغضاء "، جعلت " الهاء والميم " في قوله: " بينهم "، كناية عن اليهود والنصارى، ولم يجر لليهود والنصارى ذكر؟قيل: قد جرى لهم ذكر، وذلك قوله: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ، [سورة المائدة: 51]، جرى الخبر في بعض الآي عن الفريقين، وفي بعضٍ عن أحدهما، إلى أن انتهى إلى قوله: " وألقينا بينهم العداوة والبغضاء "، ثم قصد بقوله: " ألقينا بينهم "، الخبرَ عن الفريقين.
* * *القول في تأويل قوله : كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُقال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كلما جمع أمرهم على شيء فاستقام واستوى، فأرادوا مناهضة من ناوأهم، شتته الله عليهم وأفسده، لسوء فعالهم وخُبْثِ نياتهم، (70) كالذي:-12251 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ [سورة الإسراء: 4- 6]، قال: كان الفساد الأول، فبعث الله عليهم عدوًّا فاستباحوا الديار، واستنكحوا النساء، واستعبدوا الولدان، وخرَّبوا المسجد.
فغَبَرُوا زمانًا، (71) ثم بعث الله فيهم نبيًّا وعاد أمرهم إلى أحسن ما كان.
ثم كان الفساد الثاني بقتلهم الأنبياء، حتى قتلوا يحيى بن زكريا، فبعث الله عليهم بُخْت نصَّر، فقتل من قتل منهم، وسبى من سبى، وخرب المسجد.
فكان بخت نصر الفسادَ الثاني= قال: و " الفساد "، المعصية= ثم قال، فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ إلى قوله: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [سورة الإسراء: 7، 8] فبعث الله لهم عُزَيْرًا، وقد كان علم التوراة وحفظها في صدره وكتبها لهم.
فقام بها ذلك القرن، ولبثوا فنسوا.
(72) ومات عزير، وكانت أحداثٌ، ونسوا العهد وبَخَّلوا ربهم، وقالوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ، وقالوا في عزير: " إن الله اتخذه ولدًا "، وكانوا يعيبون ذلك على النصارى في قولهم في المسيح، فخالفوا ما نَهَوْا عنه، وعملوا بما كانوا يكفِّرون عليه، فسبق من الله كلمة عند ذلك أنهم لن يظهروا على عدوٍّ آخرَ الدهر، (73) فقال: " كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادًا والله لا يحب المفسدين "، فبعث الله عليهم المجوس الثالثةَ أربابًا، (74) فلم يزالوا كذلك والمجوس على رقابهم، وهم يقولون: " يا ليتنا أدركنا هذا النبي الذي نجده مكتوبًا عندنا، عسى الله أن يفكَّنا به من المجوس والعذاب الهون "! فبعث محمدًا صلى الله عليه وسلم= واسمه " محمد "، واسمه في الإنجيل " أحمد "= فلما جاءهم وعرفوا، (75) كفروا به، قال: فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [سورة البقرة: 89]، وقال: فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ، بسورة البقرة: 90].
(76)12252 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: " كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله "، هم اليهود.
12253 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: " كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادًا "، أولئك أعداء الله اليهود، كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله، فلن تلقَى اليهود ببلد إلا وجدتهم من أذلّ أهله.
لقد جاء الإسلام حين جاء، وهم تحت أيدي المجوس أبغضِ خلقه إليه.
12254 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: " كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله "، قال: كلما أجمعوا أمرهم على شيء فرَّقه الله، وأطفأ حَدَّهم ونارهم، (77) وقذف في قلوبهم الرعب.
* * *وقال مجاهد بما:-12255 - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: " كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله "، قال: حربُ محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *القول في تأويل قوله : وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويعمل هؤلاء اليهود والنصارى بمعصية الله، فيكفرون بآياته ويكذبون رسله، ويخالفون أمره ونهيه، وذلك سعيُهم فيها بالفساد=" والله لا يحب المفسدين "، يقول: والله لا يحب من كان عامِلا بمعاصيه في أرضه.
(78)* * *---------------الهوامش:(56) ديوانه: 150 ، وغيره.
من قصيدته الغالية التي رفعت المحلق وطارت بذكره في الآفاق ، يقول له:لَعَمْرِي لَقَدْ لاحَتْ عُيُونٌ كَثِيرَةٌإلَى ضَوْءِ نارٍ في يَفَاٍع تُحَرَّقُتُشَبُّ لمقْرُورَيْنِ يَصْطَلِيَانِهِاوَبَاتَ عَلَى النَّارِ النَّدَى والمحَلَّقُرَضِيعَيْ لِبَانٍ ثَدْيَ أُمٍّ تَحَالفَابِأَسْحَمَ عَوْضَ الدَّهْرِ لا نَتَفَرَّقُتَرَى الجُودَ يَجْرِيِ ظَاهِرًا فَوْقَ وَجْهِهِكَمَا زَانَ مَتْنَ الهُنْدُوَانِيِّ رَوْنَقُيَدَاهُ يَدَا صِدْقٍ، فَكفٌّ مُفِيدَةٌوَكَفٌّ إذَا مَا ضُنَّ بِالْمَالِ تُنْفِقُهذه رواية مخطوطة ديوانه التي صورتها حديثًا ، ورواية هذه المخطوطة تخالف الرواية المطبوعة في أشياء كثيرة ، ولا سيما في ترتيب أبيات الشعر.
(57) في المطبوعة: "عما قال أعداء الله" ، وأثبت ما في المخطوطة ، وقوله: "أعداء الله" منصوب على الذم.
(58) انظر تفسير"اللعنة" فيما سلف 10: 437 ، تعليق: 3 ، والمراجع هناك.
(59) انظر تفسير"البسط" فيما سلف 5: 288 ، 290 ، 313.
(60) انظر تفسير"الإنفاق" فيما سلف 7: 134 ، تعليق: 3 ، والمراجع هناك ، ثم سائر فهارس اللغة.
(61) في المطبوعة ، حذف ما وضعته بين الخطين ، وكان في المخطوطة: "لقد تجهدنا الله ، أي تجهدنا الله يا بني إسرائيل" ، ورجحت أن صوابها كما أثبتها.
ولم يذكر في كتب اللغة"تجهد" (مشددة الهاء) بمعنى: ألح عليه في السؤال حتى أفنى ما عنده ، وكأنه من أجل ذلك فسره بقوله (كما قرأته): "أي جهدنا الله" من قولهم"جهد الرجل" (ثلاثيا): إذا ألح عليه في السؤال.
هذا ما رأيته ، وفوق كل ذي علم عليم.
وانظر الأثر التالي.
(62) في المطبوعة: "اليهود تقول" ، وأثبت ما في المخطوطة.
(63) انظر التعليق السالف ص: 452 ، رقم: 4.
(64) هذه أول مرة يذكر فيها أبو جعفر أصحاب الكلام ويسميهم"أهل الجدل".
(65) في المطبوعة: "عن خصوصية آدم" ، وأعاد"خصوصية" بالنسب في جميع ما سيأتي ، وهو عبث من المصحح ، وأثبت ما في المخطوطة.
(66) هذه الزيادة بين القوسين زيادة يقتضيها الكلام ، استظهرتها من سياق هذه الحجج ما استطعت ، وإسقاطها مفسد للكلام.
(67) في المطبوعة: "لا تحصى بكثرة" ، وأثبت ما في المخطوطة.
(68) في المطبوعة والمخطوطة: "فلا يؤدي إلا عن اثنين" ، وهو لا يستقيم بالفاء ، إنما يستقيم بالواو كما أثبته.
(69) انظر تفسير"الطغيان" فيما سلف 1: 308 ، 309/5: 419.
(70) انظر تفسير"أوقد" فيما سلف 1: 320 ، 380/6: 222.
(71) في المطبوعة: "فغيروا" بالياء ، وهو خطأ.
"غبروا زمانا": لبثوا زمانًا.
(72) في المطبوعة: "ونسوا" ، وأثبت ما في المخطوطة.
(73) في المطبوعة والمخطوطة: "لم يظهروا" ، والسياق يقتضي ما أثبت.
(74) في المطبوعة: "المجوس الثلاثة أربابًا" ، والصواب ما في المخطوطة ، ويعني وعد الآخرة ، وهي المرة الثالثة.
(75) في المطبوعة: "فلما جاءهم ما عرفوا.
.
.
" كنص آية البقرة: 89 ، وأثبت ما في المخطوطة ، فهو صواب أيضًا ، لا يريد الآية ، بل أراد معناها.
(76) الأثر: 12251- هذا الأثر ، لم يذكره أبو جعفر في تفسير آيات"سورة الإسراء: 4- 8" في تفسيره 15: 17- 35 (بولاق).
وهذا أحد الأدلة على اختصار التفسير.
(77) "الحد": البأس والنفاذ.
و"حد الظهيرة": شدة توقدها.
(78) انظر تفسير"الفساد في الأرض" فيما سلف: 287 ، 416/ ثم 10: 257 تعليق: 1 ، والمراجع هناك.
= وتفسير"السعي" فيما سلف 4: 238 ، وفي سائر فهارس اللغة.

﴿ وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنـزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين ﴾

قراءة سورة المائدة

المصدر : تفسير : وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم