بل أحسبوه مجنونًا؟ لقد كذَبوا؛ فإنما جاءهم بالقرآن والتوحيد والدين الحق، وأكثرهم كارهون للحق حسدًا وبغيًا.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«أم يقولون به جنَّة» الاستفهام للتقرير بالحق من صدق النبيّ ومجيء الرسل للأمم الماضية ومعرفة رسولهم بالصدق والأمانة وأن لا جنون به «بل» للانتقال «جاءهم بالحق» أي القرآن المشتمل على التوحيد وشرائع الإسلام «وأكثرهم للحق كارهون».
﴿ تفسير السعدي ﴾
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ أي: جنون، فلهذا قال ما قال، والمجنون غير مسموع منه، ولا عبرة بكلامه، لأنه يهذي بالباطل والكلام السخيف.قال الله في الرد عليهم في هذه المقالة: بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ أي: بالأمر الثابت، الذي هو صدق وعدل، لا اختلاف فيه ولا تناقض، فكيف يكون من جاء به، به جنة؟! وهلا يكون إلا في أعلى درج الكمال، من العلم والعقل ومكارم الأخلاق، وأيضا فإن في هذا الانتقال مما تقدم، أي: بل الحقيقة التي منعتهم من الإيمان أنه جاءهم بالحق وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ وأعظم الحق الذي جاءهم به إخلاص العبادة لله وحده، وترك ما يعبد من دون الله، وقد علم كراهتهم لهذا الأمر وتعجبهم منه، فكون الرسول أتى بالحق، وكونهم كارهين للحق بالأصل، هو الذي أوجب لهم التكذيب بالحق لا شكا ولا تكذيبا للرسول، كما قال تعالى: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ
﴿ تفسير البغوي ﴾
( أم يقولون به جنة ) جنون ، وليس كذلك ، ( بل جاءهم بالحق ) يعني بالصدق والقول الذي لا تخفى صحته وحسنه على عاقل ، ( وأكثرهم للحق كارهون )
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ثم انتقلت السورة- للمرة الرابعة- إلى توبيخهم على أمر آخر، فقال- تعالى-: أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ....أى: أيكون سبب إصرارهم على كفرهم اتهامهم للرسول صلّى الله عليه وسلّم بالجنون؟ كلا، فإنهم يعلمون حق العلم أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم هو أكمل الناس عقلا، وأرجحهم فكرا، وأثقبهم رأيا، وأوفرهم رزانة.وقوله- تعالى- بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ إضراب عما يدل عليه ما سبق من اتهامات باطلة دارت على ألسنة المشركين.أى: ليس الأمر كما زعموا من أنه صلّى الله عليه وسلّم به جنة أو أنه أتاهم بما لم يأت آباءهم الأولين، بل الأمر الصدق، أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم جاءهم بالحق الثابت الذي لا يحوم حوله باطل ولكن هؤلاء القوم أكثرهم كارهون للحق، لأنه يتعارض مع أنانيتهم وشهواتهم، وأهوائهم..وقال- سبحانه-: وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ لأن قلة من هؤلاء المشركين كانت تعرف أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد جاءهم بالحق، وتحب أن تدخل في الإسلام، ولكن حال بينهم وبين ذلك، الخوف من تعيير أقوامهم لهم بأنهم فارقوا دين آبائهم وأجدادهم، كأبى طالب- مثلا- فإنه مع دفاعه عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم بقي على كفره.قال صاحب الكشاف: فإن قلت: قوله وَأَكْثَرُهُمْ فيه أن أقلهم كانوا لا يكرهون الحق؟ قلت: كان فيهم من يترك الإيمان به أنفة واستنكافا من توبيخ قومه، وأن يقولوا صبأ وترك دين آبائه، لا كراهة للحق، كما يحكى عن أبى طالب.فإن قلت: يزعم بعض الناس أن أبا طالب صح إسلامه؟ قلت: يا سبحان الله. كأن أبا طالب كان أخمل أعمام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى يشتهر إسلام حمزة والعباس- رضى الله عنهما- ويخفى إسلام أبى طالب» .
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
وقوله : ( أم يقولون به جنة ) يحكي قول المشركين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تقول القرآن ، أي : افتراه من عنده ، أو أن به جنونا لا يدري ما يقول . وأخبر عنهم أن قلوبهم لا تؤمن به ، وهم يعلمون بطلان ما يقولونه في القرآن ، فإنه قد أتاهم من كلام الله ما لا يطاق ولا يدافع ، وقد تحداهم وجميع أهل الأرض أن يأتوا بمثله ، فما استطاعوا ولا يستطيعون أبد الآبدين; ولهذا قال : ( بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون ) يحتمل أن تكون هذه جملة حالية ، أي : في حال كراهة أكثرهم للحق ، ويحتمل أن تكون خبرية مستأنفة ، والله أعلم .وقال قتادة : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لقي رجلا فقال له : " أسلم " فقال الرجل : إنك لتدعوني إلى أمر أنا له كاره . فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : " وإن كنت كارها " . وذكر لنا أنه لقي رجلا فقال له : " أسلم " فتصعده ذلك وكبر عليه ، فقال له نبي الله : " أرأيت لو كنت في طريق وعر وعث ، فلقيت رجلا تعرف وجهه ، وتعرف نسبه ، فدعاك إلى طريق واسع سهل ، أكنت متبعه ؟ " قال : نعم . فقال : " فوالذي نفس محمد بيده ، إنك لفي أوعر من ذلك الطريق لو قد كنت عليه ، وإني لأدعوك إلى أسهل من ذلك لو دعيت إليه " . وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لقي رجلا فقال له : " أسلم " فتصعده ذلك ، فقال له نبي الله صلى الله عليه وسلم : " أرأيت فتييك ، أحدهما إذا حدثك صدقك ، وإذا ائتمنته أدى إليك أهو أحب إليك ، أم فتاك الذي إذا حدثك كذبك وإذا ائتمنته خانك؟ " . قال : بل فتاي الذي إذا حدثني صدقني ، وإذا ائتمنته أدى إلي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " كذاكم أنتم عند ربكم " .
﴿ تفسير القرطبي ﴾
قوله تعالى : أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهونقوله تعالى : أم يقولون به جنة أي أم يحتجون في ترك الإيمان به بأنه مجنون ، فليس هو هكذا لزوال أمارات الجنون عنه . بل جاءهم بالحق يعني القرآن والتوحيد الحق والدين الحق . وأكثرهم أي كلهم للحق كارهون حسدا وبغيا وتقليدا .
﴿ تفسير الطبري ﴾
( أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ ) يقول: أيقولون بمحمد جنون، فهو يتكلم بما لا معنى له ولا يفهم ولا يدري ما يقول؟!( بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ )يقول تعالى ذكره: فإن يقولوا ذلك فكذبهم في قيلهم ذلك واضح بَيّن، وذلك أن المجنون يهذي فيأتي من الكلام بما لا معنى له، ولا يعقل ولا يفهم، والذي جاءهم به محمد هو الحكمة التي لا أحكم منها والحقّ الذي لا تخفى صحته على ذي فطرة صحيحة، فكيف يجوز أن يقال: هو كلام مجنون؟وقوله: ( وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) يقول تعالى ذكره: ما بهؤلاء الكفرة أنهم لم يعرفوا محمدا بالصدق ولا أن محمدا عندهم مجنون، بل قد علموه صادقا محقا فيما يقول وفيما يدعوهم إليه، ولكن أكثرهم للإذعان للحقّ كارهون ولأتباع محمد ساخطون؛ حسدا منهم له وبغيا عليه واستكبارا في الأرض.
﴿ أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون ﴾