هذا الثواب الجزيل منازل عالية في الجنات من الله تعالى لخاصة عباده المجاهدين في سبيله، ومغفرة لذنوبهم ورحمة واسعة ينعمون فيها. وكان الله غفورًا لمن تاب إليه وأناب، رحيمًا بأهل طاعته، المجاهدين في سبيله.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«درجات منه» منازل بعضها فوق بعض من الكرامة «ومغفرة ورحمة» منصوبان بفعلهما المقدر «وكان الله غفورا» لأوليائه «رحيما» بأهل طاعته. ونزل في جماعة أسلموا ولم يهاجروا فقتلوا يوم بدر مع الكفار.
﴿ تفسير السعدي ﴾
ولما وعد المجاهدين بالمغفرة والرحمة الصادرَيْن عن اسميه الكريمين الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ختم هذا الآية بهما فقال: وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا
﴿ تفسير البغوي ﴾
( درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما ) قال ابن محيريز في هذه الآية : هي سبعون درجة ما بين كل درجتين عدو الفرس الجواد المضمر سبعين خريفا .وقيل : الدرجات هي الإسلام والجهاد والهجرة والشهادة فاز بها المجاهدون ، أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني ، أنا أبو محمد محمد بن علي بن محمد بن شريك الشافعي ، أنا عبد الله بن مسلم أبو بكر الجوربذي ، أنا يونس بن عبد الأعلى ، أنا ابن وهب ، حدثني أبو هانئ الخولاني ، عن أبي عبد الرحمن الجبلي ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يا أبا سعيد من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وجبت له الجنة " قال فعجب لها أبو سعيد فقال : أعدها علي يا رسول الله ، ففعل ، قال : " وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض " قال : وما هي يا رسول الله؟ فقال : " الجهاد في سبيل الله الجهاد في سبيل الله " .أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنا أبو القاسم إبراهيم بن محمد بن علي بن الشاه ، أنا أبي ، أنا أبو الحسن علي بن أحمد بن صالح المطرز ، أنا محمد بن يحيى ، أنا شريح بن النعمان ، أنا فليح ، عن هلال بن علي ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقا على الله عز وجل أن يدخله الجنة ، جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها " ، قالوا : أفلا ننذر الناس بذلك؟ قال : " إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ، ما بين كل من الدرجتين كما بين السماء والأرض ، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ، ومنه تفجر أنهار الجنة " .واعلم أن الجهاد في الجملة فرض ، غير أنه ينقسم إلى فرض العين وفرض الكفاية .ففرض العين : أن يدخل الكفار دار قوم من المؤمنين ، فيجب على كل مكلف من الرجال ، ممن لا عذر له من أهل تلك البلدة الخروج إلى عدوهم ، حرا كان أو عبدا ، غنيا كان أو فقيرا ، دفعا عن أنفسهم وعن جيرانهم .وهو في حق من بعد منهم من المسلمين فرض على الكفاية ، فإن لم تقع الكفاية بمن نزل بهم يجب على من بعد منهم من المسلمين عونهم ، وإن وقعت الكفاية بالنازلين بهم فلا فرض على الأبعدين إلا على طريق الاختيار ، ولا يدخل في هذا القسم العبيد والفقراء ، ومن هذا القبيل أن يكون الكفار قارين في بلادهم ، فعلى الإمام أن لا يخلي سنة عن غزوة يغزوها بنفسه أو بسراياه حتى لا يكون الجهاد معطلا والاختيار للمطيق الجهاد مع وقوع الكفاية بغيره : أن لا يقعد عن الجهاد ، ولكن لا يفترض ، لأن الله تعالى وعد المجاهد والقاعد الثواب في هذه الآية فقال : ( وكلا وعد الله الحسنى ) ولو كان فرضا على الكافة لاستحق القاعد العقاب لا الثواب .
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ثم فصل- سبحانه- هذا الأجر العظيم فقال دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً.أى فضل الله- تعالى- المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين عن الجهاد بغير عذر بالأجر العظيم الذي يرفعهم عند الله- تعالى- درجات عالية ويقربهم من مقامات قدسه، ويغفر لهم ما فرط منهم، ويتغمدهم بسابغ رحمته وكان الله كثير الغفران لأوليائه واسع الرحمة بأهل طاعته.وقوله دَرَجاتٍ مِنْهُ بدل أو عطف بيان من قوله أَجْراً عَظِيماً. وقوله مِنْهُ جار ومجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لدرجات.ونكرت الدرجات للإشعار بأنها درجات عظيمة لا يحدها الحصر، ولا يعينها المقدار، بل هي شرف عظيم لا يناله إلا المقربون الأبرار.هذا، وما جرينا عليه من أن المجاهدين يمتازون عن القاعدين بعذر بدرجة، ويمتازون عن القاعدين بغير عذر بدرجات هو رأى كثير من المفسرين، وقد عبر عنه صاحب الكشاف بقوله:فإن قلت: قد ذكر الله- تعالى- مفضلين درجة ومفضلين درجات فمن هم؟ قلت: أما المفضلون درجة واحدة فهم الذين فضلوا على القاعدين الأضراء. وأما المفضلون درجات فالذين فضلوا على القاعدين الذين أذن لهم في التخلف اكتفاء بغيرهم، لأن الغزو فرض كفاية .ومن المفسرين من يرى أن الذين فضل الله عليهم المجاهدين بدرجة وبدرجات هم صنف واحد، وهم الذين قعدوا عن الجهاد بدون عذر. أما الذين قعدوا بعذر فهم متساوون في الأجر مع المجاهدين.وعلى هذا الرأى سار الآلوسى في تفسيره فقد قال ما ملخصه: «فضل الله المجاهدين» في سبيله «بأموالهم وأنفسهم على القاعدين» من المؤمنين غير أولى الضرر دَرَجَةً لا يقادر قدرها. وَكُلًّا أى: كل واحد من الفريقين المجاهدين والقاعدين (وعد الله الحسنى) . وقوله وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ عطف على ما قبله أَجْراً عَظِيماً.ثم قال: ولعل تكرير التفضيل بطريق العطف المنبئ عن المغايرة. وتقييده تارة بدرجة وتارة بدرجات مع اتحاد المفضل والمفضل عليه. إما لتنزيل الاختلاف العنواني بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات منزلة الاختلاف الذاتي تمهيدا لسلوك طريق الإبهام ثم التفسير ... وإما للاختلاف بالذات بين التفضيلين والدرجة والدرجات.وقد حكى الإمام القرطبي هذين الوجهين فقال: قوله- تعالى- فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وقد قال بعد هذا: دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً فقال قوم: التفضيل بالدرجة ثم بالدرجات إنما هو مبالغة وبيان وتأكيد.وقيل: فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولى الضرر بدرجة واحدة. وفضل الله المجاهدين على القاعدين من غير عذر درجات.والذي نراه أولى من هذين القولين قول من قال بأن الله- تعالى- فضل المجاهدين على القاعدين بعذر بدرجة، وفضل المجاهدين على القاعدين بغير عذر بدرجات، وذلك لأن هذا التفسير هو المأثور عن ابن عباس وغيره من الصحابة. فقد قال ابن عباس في قوله- تعالى- فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً أراد بالقاعدين هنا أولى الضرر ولأن القاعدين بعذر وإن كان لهم من حسن النية ما يرفع منزلتهم إلا أن المجاهدين الذين باشروا الجهاد وعرضوا أنفسهم لأخطار القتال يفوقونهم منزلة وأجرا.وهذا ما يقتضيه منطق العقول البشرية، أما عطاء الله بعد ذلك لكل فريق فمرجعه إليه وحده على حسب ما تقتضيه حكمته وسعة رحمته.هذا، وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة أن الجهاد من أفضل الأعمال وأن المجاهدين لهم عند الله- تعالى- منازل عالية. ومن الأحاديث التي وردت في هذا المعنى ما أخرجه الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله. بين كل درجتين كما بين السماء والأرض. فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة ومنه تتفجر أنهار الجنة» .وبعد أن رفع- سبحانه- من شأن المجاهدين، وبين حال القاعدين عن الجهاد يعذر أو بغير عذر، أتبع ذلك ببيان حال القاعدين في دار الكفر بدون هجرة إلى دار الإسلام، ووعد المهاجرين في سبيل الله بحسن العاقبة فقال- تعالى-:
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
( درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما )وقد ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن في الجنة مائة درجة ، أعدها الله للمجاهدين في سبيله ، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض " .وقال الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من بلغ بسهم فله أجره درجة " فقال رجل : يا رسول الله ، وما الدرجة ؟ فقال : " أما إنها ليست بعتبة أمك ، ما بين الدرجتين مائة عام " .
القول في تأويل قوله : دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: " درجات منه "، فضائل منه ومنازل من منازل الكرامة. (21)* * *واختلف أهل التأويل في معنى " الدرجات " التي قال جل ثناؤه: " درجات منه ".فقال بعضهم بما:-10256- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: " درجات منه ومغفرة ورحمة "، كان يقال: الإسلام درجة، والهجرة في الإسلام درجة، والجهاد في الهجرة درجة، والقتل في الجهاد دَرَجة.* * *وقال آخرون بما:-10257- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سألت ابن زيد عن قول الله تعالى: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ ،" الدرجات " هي السبع التي ذكرها في" سورة براءة ": مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ فقرأ حتى بلغ: أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة التوبة: 120-121]. قال: هذه السبع الدرجات. قال: وكان أول شيء، فكانت درجة الجهاد مُجْملة، فكان الذي جاهد بماله له اسمٌ في هذه، فلما جاءت هذه الدرجات بالتفصيل أخرج منها، فلم يكن له منها إلا النفقة، فقرأ: لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ ، وقال: ليس هذا لصاحب النفقة. ثم قرأ: وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً ، قال: وهذه نفقة القاعد.* * *وقال آخرون: عنى بذلك درجات الجنة.ذكر من قال ذلك.10258- حدثنا علي بن الحسن الأزدي قال، حدثنا الأشجعي، عن سفيان، عن هشام بن حسان، عن جبلة بن سحيم. عن ابن محيريز في قوله: " فضل الله المجاهدين على القاعدين "، إلى قوله: " درجات "، قال: الدرجات سبعون درجة، ما بين الدرجتين حُضْرُ الفرس الجواد المُضَمَّر سبعين سنة. (22)* * *قال أبو جعفر: وأولى التأويلات بتأويل قوله: " درجات منه "، أن يكون معنيًّا به درجات الجنة، كما قال ابن محيريز. لأن قوله تعالى ذكره: " درجات منه ": ترجمة وبيان عن قوله: " أجرًا عظيمًا "، ومعلوم أن " الأجر "، إنما هو الثواب والجزاء. (23) وإذْ كان ذلك كذلك، وكانت " الدرجات " و " المغفرة " و " الرحمة " ترجمة عنه، كان معلومًا أن لا وجه لقول من وجَّه معنى قوله: " درجات منه "، إلى الأعمال وزيادتها على أعمال القاعدين عن الجهاد، كما قال قتادة وابن زيد: وإذ كان ذلك كذلك، وكان الصحيح من تأويل ذلك ما ذكرنا، فبيِّنٌ أن معنى الكلام: وفضل الله المجاهدين في سبيل الله على القاعدين من غير أولي الضرر، أجرًا عظيمًا، وثوابًا جزيلا وهو درجات أعطاهموها في الآخرة من درجات الجنة، رفعهم بها على القاعدين بما أبلوا في ذات الله.* * *=" ومغفرة " يقول: وصفح لهم عن ذنوبهم، فتفضل عليهم بترك عقوبتهم عليها=" ورحمة "، يقول: ورأفة بهم=" وكان الله غفورًا رحيمًا "، يقول: ولم يزل الله غفورًا لذنوب عباده المؤمنين، يصفح لهم عن العقوبة عليها (24) =" رحيما " بهم، يتفضل عليهم بنعمه، مع خلافهم أمره ونهيه، وركوبهم معاصيه. (25)------------------الهوامش :(21) انظر تفسير"الدرجة" فيما سلف 4: 533 ، 536 / 7 : 368 ، وما مضى ص: 95 ، تعليق: 2(22) الأثر: 10258 -"علي بن الحسين الأزدي" ، شيخ الطبري ، لم أجد له ترجمة ، وقد روى عنه في تاريخه في مواضع منها 1 : 44 ، 49 / 6: 73 ، 143.و"الأشجعي" ، هو: "عبيد الله بن عبيد الرحمن الأشجعي" مضت ترجمته برقم: 8622 . و"سفيان" ، هو الثوري.و"هشام بن حسان القردوسي" مضى برقم 2827 ، 7287.و"جبلة بن سحيم" مضى برقم: 3003 .و"ابن محيريز" ، هو عبد الله بن محيريز ، مضى برقم: 8720.و"حضر الفرس" ارتفاعه في عدوه ، "أحضر الفرس يحضر إحضارًا" ، عدا عدوًا شديدًا.و"الفرس المضمر" ، وهو الذي أعد إعدادًا للسباق والركض.(23) انظر تفسير"الأجر" فيما سلف 8 : 542 ، تعليق: 1 ، والمراجع هناك.(24) في المطبوعة: "فيصفح" بزيادة الفاء ، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو الجيد.(25) انظر تفسير"المغفرة" ، و"الرحمة" ، و"غفور" و"رحيم" فيما سلف من فهارس اللغة.