إنَّا لما جاوز الماء حدَّه، حتى علا وارتفع فوق كل شيء، حملنا أصولكم مع نوح في السفينة التي تجري في الماء؛ لنجعل الواقعة التي كان فيها نجاة المؤمنين وإغراق الكافرين عبرة وعظة، وتحفظها كل أذن مِن شأنها أن تحفظ، وتعقل عن الله ما سمعت.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«لنجعلها» أي هذه الفعلة وهي إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين «لكم تذكرة» عظة «وتعيها» ولتحفظها «أذن واعية» حافظة لما تسمع.
﴿ تفسير السعدي ﴾
فاحمدوا الله واشكروا الذي نجاكم حين أهلك الطاغين واعتبروا بآياته الدالة على توحيده ولهذا قال: لِنَجْعَلَهَا أي: الجارية والمراد جنسها، لَكُمْ تَذْكِرَةً تذكركم أول سفينة صنعت وما قصتها وكيف نجى الله عليها من آمن به واتبع رسوله وأهلك أهل الأرض كلهم فإن جنس الشيء مذكر بأصله. وقوله: وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ أي: تعقلها أولو الألباب ويعرفون المقصود منها ووجه الآية بها. وهذا بخلاف أهل الإعراض والغفلة وأهل البلادة وعدم الفطنة فإنهم ليس لهم انتفاع بآيات الله لعدم وعيهم عن الله، وفكرهم بآيات الله
﴿ تفسير البغوي ﴾
( لنجعلها ) أي لنجعل تلك الفعلة التي فعلنا من إغراق قوم نوح ونجاة من حملنا معه ( لكم تذكرة ) عبرة وموعظة ( وتعيها ) قرأ القواس عن ابن كثير وسليم عن حمزة باختلاس العين ، وقرأ الآخرون بكسرها أي تحفظها ( أذن واعية ) أي : حافظة لما جاء من عند الله . قال قتادة : [ أذن ] سمعت وعقلت ما سمعت . قال الفراء : لتحفظها كل أذن فتكون عبرة وموعظة لمن يأتي بعد .
﴿ تفسير الوسيط ﴾
وقد فعلنا ذلك لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةًأى: لنجعل لكم هذه النعمة وهي إنجاؤكم وإنجاء آبائكم من الغرق- عبرة وعظة وتذكيرا بنعم الله- تعالى- عليكم.وهذه النعمة والمنة تَعِيَهاوتحفظها أُذُنٌ واعِيَةٌ. أى: أذن من شأنها أن تحفظ ما يجب حفظه، وتعى ما يجب وعيه.فقوله: واعِيَةٌمن الوعى بمعنى الحفظ للشيء في القلب. يقال: وعى فلان الشيء يعيه إذا حفظه أكمل حفظ.وقال- سبحانه- حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ مع أن الحمل كان للآباء الذين آمنوا بنوح- عليه السلام- لأن في نجاة الآباء، نجاة للأبناء، ولأنه لو هلك الآباء لما وجد الأبناء.قال صاحب الكشاف قوله: حَمَلْناكُمْ أى: حملنا آباءكم، في الجارية، أى: في السفينة الجارية، لأنهم إذا كانوا من نسل المحمولين الناجين، كان حمل آبائهم منة عليهم، وكأنهم هم المحمولون، لأن نجاتهم سبب ولادتهم.لِنَجْعَلَهاالضمير للفعلة: وهي نجاة المؤمنين وإغراق الكفرة تَذْكِرَةًعبرة وعظة. وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌمن شأنها أن تعى وتحفظ ما يجب حفظه ووعيه، ولا تضيعه بترك العمل.فإن قلت: لم قيل: أذن واعية على التوحيد والتنكير؟ قلت: للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة، ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم، وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت وعقلت عن الله، فهي السواد الأعظم عند الله، وأن ما سواها لا يبالى بهم، وإن ملأوا الخافقين.. .وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد ذكرت الناس بأهوال يوم القيامة بأبلغ أسلوب، وبينت ما حل بالمكذبين بطريقة تبعث الخوف والوجل في القلوب.ثم أخذت السورة في تفصيل أهوال يوم القيامة، وفي بيان ما تكون عليه الأرض والسماء في هذا اليوم، وفي بيان ما أعده- سبحانه- لمن أوتى كتابه بيمينه في هذا اليوم، فقال- تعالى-:
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
( لنجعلها لكم تذكرة ) عاد الضمير على الجنس لدلالة المعنى عليه ، أي : وأبقينا لكم من جنسها ما تركبون على تيار الماء في البحار ، كما قال : ( وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه ) [ الزخرف : 12 ، 13 ] ، وقال تعالى : ( وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون ) [ يس : 41 ، 42 ] .وقال قتادة : أبقى الله السفينة حتى أدركها أوائل هذه الأمة ، والأول أظهر ; ولهذا قال : ( وتعيها أذن واعية ) أي : وتفهم هذه النعمة ، وتذكرها أذن واعية .قال ابن عباس : حافظة سامعة ، وقال قتادة : ( أذن واعية ) عقلت عن الله فانتفعت بما سمعت من كتاب الله ، وقال الضحاك : ( وتعيها أذن واعية ) سمعتها أذن ووعت . أي : من له سمع صحيح وعقل رجيح . وهذا عام فيمن فهم ، ووعى .وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة الدمشقي ، حدثنا العباس بن الوليد بن صبح الدمشقي ، حدثنا زيد بن يحيى ، حدثنا علي بن حوشب ، سمعت مكحولا يقول : لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وتعيها أذن واعية ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سألت ربي أن يجعلها أذن علي " . [ قال مكحول ] فكان علي يقول : ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط فنسيته .وهكذا رواه ابن جرير ، عن علي بن سهل ، عن الوليد بن مسلم ، عن علي بن حوشب ، عن مكحول به . وهو حديث مرسل .وقد قال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا جعفر بن محمد بن عامر ، حدثنا بشر بن آدم ، حدثنا عبد الله بن الزبير أبو محمد - يعني والد أبي أحمد الزبيري - حدثني صالح بن الهيثم ، سمعت بريدة الأسلمي يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي : " إني أمرت أن أدنيك ولا أقصيك ، وأن أعلمك وأن تعي ، وحق لك أن تعي " . قال : فنزلت هذه الآية ( وتعيها أذن واعية )ورواه ابن جرير عن محمد بن خلف ، عن بشر بن آدم ، به ، ثم رواه ابن جرير من طريق آخر عن داود الأعمى ، عن بريدة ، به . ولا يصح أيضا .
﴿ تفسير القرطبي ﴾
لنجعلها لكم تذكرة يعني سفينة نوح عليه الصلاة والسلام . جعلها الله تذكرة وعظة لهذه الأمة حتى أدركها أوائلهم ; في قول قتادة . قال ابن جريج : كانت ألواحها على الجودي . والمعنى : أبقيت لكم تلك الخشبات حتى تذكروا ما حل بقوم نوح ، وإنجاء الله آباءكم ; وكم من سفينة هلكت وصارت ترابا ولم يبق منها شيء . وقيل : لنجعل تلك الفعلة من إغراق قوم نوح وإنجاء من آمن معه موعظة لكم ; ولهذا قال الله تعالى :وتعيها أذن واعية أي تحفظها وتسمعها أذن حافظة لما جاء من عند الله . والسفينة لا توصف بهذا . قال الزجاج : ويقال وعيت كذا أي حفظته في نفسي ، أعيه وعيا . ووعيت العلم ، ووعيت ما قلت ; كله بمعنى . وأوعيت المتاع في الوعاء . قال الزجاج : يقال لكل ما حفظته في غير نفسك : " أوعيته " بالألف ، ولما حفظته في نفسك " وعيته " بغير ألف . وقرأ طلحة وحميد والأعرج " وتعيها " بإسكان العين ; تشبيها بقول : " أرنا " . واختلف فيها عن عاصم وابن كثير . الباقون بكسر العين ; ونظير قوله تعالى : وتعيها أذن واعية ، إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب . وقال قتادة : الأذن الواعية أذن عقلت عن الله تعالى ، وانتفعت بما سمعت من كتاب الله عز وجل . وروى مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند نزول هذه الآية : " سألت ربي أن يجعلها أذن علي " . قال مكحول : فكان علي رضي الله عنه يقول : ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط فنسيته إلا وحفظته . ذكره الماوردي . وعن الحسن نحوه . ذكره الثعلبي قال : لما نزلت وتعيها أذن واعية قال النبي صلى الله عليه وسلم : " سألت ربي أن يجعلها أذنك يا علي " قال علي : فوالله ما نسيت شيئا بعد ، وما كان لي أن أنسى . وقال أبو برزة الأسلمي قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي : " يا علي إن الله أمرني أن أدنيك ولا أقصيك ، وأن أعلمك ، وأن تعي ، وحق على الله أن تعي " .
﴿ تفسير الطبري ﴾
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً ) فأبقاها الله تذكرة وعبرة وآية، حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة، وكم من سفينة قد كانت بعد سفينة نوح قد صارت رمادا.وقوله: ( وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) يعني: حافظة عقلت عن الله ما سمعت.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس ( وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) يقول: حافظة.حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) يقول: سامعة، وذلك الإعلان.* ذكر من قال ذلك:حدثنا نصر بن عليّ، قال: ثنا أبي، قال: ثنا خالد بن قيس، عن قتادة ( وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) قال: أذن عقلت عن الله.حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ): أذن عقلت عن الله، فانتفعت بما سمعت من كتاب الله.حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ( أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) قال: أذن سمعت، وعقلت ما سمعت.حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: الضحاك يقول في قوله: ( وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ): سمعتها أذن ووعت.حدثنا عليّ بن سهل، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن عليّ بن حوشب، قال: سمعت مكحولا يقول: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) ثم التفت إلى عليّ، فقال: " سأَلْتُ الله أنْ يَجْعَلَها أُذُنَكَ"، قال عليّ رضي الله عنه : فما سمعت شيئا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسيته.حدثني محمد بن خلف، قال: ثني بشر بن آدم، قال: ثنا عبد الله بن الزبير، قال: ثني عبد الله بن رستم، قال: سمعت بُرَيدة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعليّ: " يا عَليُّ؛ إنَّ اللهَ أمَرَنِي أنْ أُدْنِيَكَ وَلا أُقْصِيَكَ، وأنْ أُعَلِّمَكَ وأنْ تَعي، وحَقٌّ على اللهِ أنْ تَعِي"، قال: فنزلت ( وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ).حدثني محمد بن خلف، قال: ثنا الحسن بن حماد، قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم أبو يحيى التيميّ، عن فضيل بن عبد الله، عن أبي داود، عن بُرَيدة الأسلميّ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعليّ: " إنَّ اللهَ أمَرَنِي أنْ أُعَلِّمَكَ، وأنْ أُدْنِيَكَ، وَلا أجْفُوَكَ وَلا أُقْصِيَكَ "، ثم ذكر مثله.حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد، في قوله: ( وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) قال: واعية يحذرون معاصي الله أن يعذّبهم الله عليها، كما عذّب من كان قبلهم تسمعها فتعيها، إنما تعي القلوب ما تسمع الآذان من الخير والشرّ من باب الوعي.